منتدى أصيلة يناقش الفن وسلطة التقنية في عصر الذكاء الاصطناعي
تطورت التقنيات التكنولوجية بشكل كبير ما انعكس على حياة الإنسان فردا ومجموعة، وهذا التأثير يتجاوز السطح والقشور الخارجية إلى عمق الوعي. ومن ناحية أخرى تتواصل التغييرات الجذرية التي تحدثها الثورة الرقمية على الفنون المعاصرة، إذ باتت في صميم اشتغالاتها وفي جوهر تصوراتها ورؤاها. وهذا ما ناقشه عدد من المختصين في أصيلة مؤخرا.
في إطار التفكير والاشتغال الفني داخل العالم العربي والعالم، جاءت ندوة “الفن وسلطة التقنية”، التي تواصلت على مدى يومي الجمعة والسبت الماضيين، في جلستين، ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي الـ46، في دورته الخريفية، ليستعرض فيها المشاركون تطور العلاقة بين الفن والتقنية، من زاوية “السلطة” التي تمارسها التقنية على الفن، مع التركيز على التأثير المستجد للتكنولوجيات الحديثة على علاقة الفنان بفنه، خصوصا في ظل المستجد المتعلق بالذكاء الاصطناعي.
وخلص المشاركون إلى أن التقنية لم تُضِف بعدًا جماليًا جديدًا فحسب، بل أسهمت أيضًا في بلورة وعي فني معاصر يُجسّد التحوّلات الثقافية والتكنولوجية لمجتمعاتنا الراهنة؛ مشددين على أن التداخل بين الفن والتقنية يثير في الآن ذاته تساؤلات عميقة، من قبيل: هل ما زال بإمكان الفن أن يحافظ على جوهره الإنساني في زمنٍ تهيمن فيه الخوارزميات والذكاء الاصطناعي؟ وهل ستكون التقنية خادمة للإبداع أم بديلًا عنه؟
هيمنة التقنية
اعتبر الناقد وأستاذ التعليم العالي شرف الدين ماجدولين، منسق الندوة، في كلمة تقديمية لأشغالها، أن سؤال “الفن وسلطة التقنية” انبعث من أن التقنية باتت لا تشكل فقط قاعدة لكل اجتهاد إنساني اليوم، بل سلطة، وأننا حين نقول إنها باتت كذلك، فلأنها توجه التعبيرات وتهيمن على اختيارات الفنانين، وما يبذلونه من جهود في الإنجاز والتعبير.
شهــــادات

وأشار إلى أننا حين نقول “التقنية”، ينصرف ذهننا إلى أنها منتجة للوسائط وللأجهزة، أي أنها تنتج تلك المسافة التي فيها بُعد الأداة وبُعد الإنتاج. مضيفا أنه يمكننا أن نعتبر أن تاريخ الفن هو تاريخ للاجتهاد التقني الذي بذله الذهن البشري في حقل الفن، ما يعني أن تاريخ الفن هو تاريخ تقنيات التعبير الفني. وبعد نشأة فنون الحفر والطباعة الحجرية وغيرها، ثم لحظة التصوير الفوتوغرافي، التي كان فيها الجهاز منطلقا لكي يتحول الانشغال الفني من مسعى المطابقة والتمثيل إلى مسعى مختلف، وصلنا مع الفنون الرقمية إلى لحظة ثالثة.
ورأى ماجدولين أن الفنون الرقمية في تعدداتها وما باتت تتطلبه من مؤسسات يكون فيها الفنان مجرد طرف، إلى جانب المهندس والمبرمج والخبير في المعلوماتية وفي علوم الكومبيوتر، أنشأت لنا لحظة مختلفة تستدعي أسئلة مؤرقة في حقل الفنون، من قبيل: هل عادت لملكية التحفة مكانة اليوم؟ وأي تعبير للفنون الرقمية التي لا يكون فيها دور كبير للفنان؟ وأيّ مرجعية يمكن أن تكون في هذه اللحظات للمتاحف؟ وهل يمكن أن تكون لهذه الأعمال أروقة ومتاحف وأرشيف؟
وفي تدخله أكد حاتم البطيوي، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، أن التقنية أصبحت في زمننا الراهن مكوّنًا أساسيًّا من مكوّنات الممارسة الفنية، إذ لم تعد تقتصر على كونها أداة مساعدة أو وسيطًا آليًا فحسب، بل تحوّلت إلى فضاء إبداعي مستقل يُعيد تعريف مفاهيم الفن والجمال والتجربة الجمالية ذاتها. ولاحظ أن الفنان المعاصر صارت له إمكانات غير مسبوقة في التعبير والتجريب، مع تطوّر الوسائط الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والتصوير ثلاثي الأبعاد، والواقع الافتراضي.
ومن غير الخافي، أكد البطيوي، أن التقنية باتت تسهم في توسيع وسائط التعبير الفني، حيث تجاوز الفن حدوده التقليدية المألوفة، المحصورة في الرسم والتصوير والنحت والتنصيبات، ليتجسّد في أشكال جديدة مثل الفن الرقمي، وفن الفيديو، والفن التفاعلي، والتركيبات السمعية – البصرية، والفن القائم على البيانات؛ واعتبر أن هذه الأشكال سمحت للفنان بترجمة أفكار معقدة بأساليب مبتكرة، كما مكّنت الجمهور من خوض تجارب حسّية مثيرة والمشاركة بفاعلية في العملية الإبداعية.
وبالنسبة إلى البطيوي، فقد أدّت الثورة الرقمية، من جانب آخر، إلى دَمقرطة الإبداع الفني؛ إذ لم يعد الفن حكرًا على النخب أو المؤسسات الأكاديمية والمتاحف، بل أصبح متاحًا للجميع عبر المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ بمجرّد أن يتوفّر الفنان على كومبيوتر واتصال بشبكة الإنترنت، يغدو قادرًا على التعبير عن ذاته وتقاسم أعماله مع جمهور عالمي، ما عزّز التعددية والتنوّع في المشهد الفني. كما فتحت التقنية، من جانب ثالث، مجالًا أرحب لتقاطع الفن والعلم، حيث أضحى التعاون بين الفنانين والمهندسين والمبرمجين يولّد مشاريع تجمع بين الحسّ الجمالي والابتكار التقني.
سلطة على حرية الفن
في تناوله لموضوع سلطة التقنية في عالم الفن، توقف الأكاديمي نورالدين أفاية عند مسلّمتين اثنتين لا يمكن القفز عليهما عند مقاربة هذا الموضوع، أولاهما أن اكتشاف الآلة لم يتم إلا لقصور وعجز بشري ولتعويض ما لا يستطيع الإنسان القيام به، وفي نفس الوقت لتفجير الأحلام سواء عبر الكتابة أو السينما أو التصوير الفوتوغرافي والتلفزيون.
أما ثانيهما فيتعلق بأن أيّ اكتشاف تقني عبر تاريخ الممارسة الفنية يغير حتما من الممارسات الثقافية، أي أن تطور التقنية كانت له دوما تأثيرات وأبعاد ثقافية، مؤكدا في هذا الصدد على أن كل تحول في التقنية تتمخض عنه تغييرات كبرى على مستوى الإحساس والنظر والإدراك، والعلاقات التبادلية والممارسات الثقافية داخل المجتمع الواحد أو عدة مجتمعات، بالنظر إلى معطى العولمة التي أنتجت مفهوم النموذج الواحد المعمم.
الثورة الرقمية أدّت إلى دَمقرطة الإبداع الفني؛ إذ لم يعد الفن حكرًا على النخب أو المؤسسات الأكاديمية والمتاحف، بل أصبح متاحًا للجميع عبر المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي
ولفت أفاية إلى أن مقاربة الموضوع تتم من زاوية ما تستطيعه هذه التقنية ضمن مسار الإبداع الفني، وفي نفس الوقت ما تفرضه هذه السلطة على الفن من مقاومات وأشكال البحث عن منافذ ومسارب للحرية.
من جهة أخرى نبه مدير المعهد الأكاديمي للفنون إلى أنه لا ينبغي اختزال التقنية في مسألة الآلة المفترضة التي يمكن إدماجها في عملية تحويل المواد الفنية إلى منجز، دون الوقوف على كونها مكونا للفعل الإبداعي نفسه، فضلا عن الآليات التكنولوجية، في كل مراحلها، بدءا من الكتابة إلى ظهور المطبعة إلى الفوتوغرافيا ثم السينما، ووصولا اليوم إلى العوالم الحقيقية والخيالية للذكاء الاصطناعي، وما يحدثه من تغييرات في المسارات الفنية.
وفي محاولة تطويع التكنولوجيا لكي تخدم أفكار الفنانين الإبداعية وتطوير أساليبهم الفنية، تحدثت بربارة ساتر، الأكاديمية والناقدة الفنية ومديرة المدرسة العليا للفنون الجميلة بإكس أون بروفانس في فرنسا، عن مرايا الفن والانعكاسات المختلفة وما يمكن للإبداع الفني أن ينتجه من أبعاد معاكسة، وذلك انطلاقا من خلفيتها كمؤرخة للفن ومشتغلة في مجال البيداغوجيا، حيث قاربت علاقة التقنية بالصورة، والكيفية التي يمكن بها للفنان هدم الأساطير لبناء سرديات وخيالات جديدة، تصير خلالها التقنية، أحيانا، موضوعا للأثر الفني.
وتطرقت ساتر إلى الرهان من وراء كل هذا الحديث عن سراب أو معجزة التقنية، انطلاقا من ثلاثة نماذج لفنانين فرنسيين، تبين فيها طرق إنتاج الصور والتلاعب بها، وما تفرضه علينا هذه التلاعبات الإبداعية من تحدي فهم ما وراء هذه الصور. وبالنسبة إليها، فالحقيقة الوحيدة للتقنية في الفن هي تلك التي تتعلق بأن يكون ناقلا للخيال.
وضمن التطور المصاحب لتطور الذكاء الاصطناعي قدم علي سعيد حجازي، الفنان التشكيلي والباحث الأكاديمي ورئيس الإدارة المركزية لمراكز الفنون بوزارة الثقافة المصرية، سردا مفصلا لعلاقة الفن بالتكنولوجيا منذ العصور القديمة، وصولا إلى عصر الذكاء الاصطناعي.
وقال إن العملية الإبداعية ليست شيئا غامضا أو غير خاضع للبحث العلمي، كما أنها ليست عملية واحدة منعزلة، بل هي مزيج من العمليات السيكولوجية المختلفة. ورأى أنه لا بد للإبداع من ممارسة وجهد كبيرين في تدريب اليدين والعينين على اكتساب المهارات التقنية، لكي يصير المبدع قادرا على تشكيل أفكاره وتحقيقها وإيصالها للمتلقي.
وشدد حجازي، على أنه قد يكون من الخطأ أن نرجع هذه القدرة الإبداعية إلى الموهبة الفطرية وحدها، ففي الفن لا يكون المبدع الأصيل مجرد إنسان موهوب فحسب، ولكنه إنسان نضج في تنظيم مجموعة من النشاطات واستخدام المواهب والوسائط من أجل الوصول إلى غاية محددة، ثم لا يكون فنه محصلة لهذه النشاطات، مركزا على تطور التقنيات والاستخدامات على مر التاريخ، أولا على المستوى التقني؛ وكيف أن التطور الأكبر جاء من تماسها مع العين في نقاط ليست تقنية.
تمثيل الواقع والوقائع
من جهتها قدمت شو سين شين، الفنانة الفرنسية من أصول تايلاندية والأستاذة بجامعة باريس 8، عرضا تركيبيا، انطلاقا من البحث في تكنولوجيا الفن، الذي هو مجال اختصاصها؛ لذلك تحدثت عن توظيف الذكاء الاصطناعي في ميدان الفنون، من خلال حديثها عن التقنية كحاضنة خيالية فنية.
وسعت من خلال مداخلتها إلى إبراز دور التقنية في حياة الإنسان، وبالتالي المبدع، مع توقفها عند الثورة التكنولوجية ومدى تأثيرها كوسيلة للتعبير الفني. وشددت على أن الفنان يُعرف ويتميز بحساسيته الفنية، وقدرته على خلق فنه الخاص.
وارتباطا بالكيفية التي يرى بها الإنسان العالم، استعرضت شين التطورات التي حصلت في المجال التقني، خصوصا في القرنين الماضيين، مع إسهابها في الحديث عن لحظة مجيء السينما، وصولا إلى التحولات التكنولوجية اللاحقة التي يبقى أبرزها، إلى الآن، الذكاء الاصطناعي، مرورا ببدايات ثورة المعلوماتية، مقدمة لمحة عن تجربتها في الموضوع، من خلال عدد من أبحاثها التي بدأتها في تسعينات القرن الماضي في فرنسا، وتتعلق بالابتكار الفني الرقمي.
وفي تدخله رأى جعفر عقيل، الأكاديمي والباحث في الفوتوغرافيا بالمعهد العالي للإعلام والاتصال في الرباط، أن هذه التحولات ستتولد عنها مجموعة من التصورات والرؤى الجديدة عن الثقافة والفن والارتباطات التي تؤسسها ذات الفرد مع محيطها، وعن الصيغ الفكرية والفنية التي توظفها؛ الشيء الذي يطرح مسألة تمثيل الواقع والوقائع فيها وحدود تفاعل النظر معها، ثم الحديث عن المساحة التي تخلقها هذه الفوتوغرافيات مع النسخة ومع المزيف بشكل عام، وخاصة كيف تؤثر هذه الفوتوغرافيات في مشاهدها وفي تشكيل وجدانه وتمثلاته للواقع.