معركة اختيار السفراء العراقيين إدانة جديدة لنظام المحاصصة
لا تمثّل المعركة السياسية الدائرة في العراق حول تعيين عدد من السفراء الجدد حدثا استثنائيا خارجا عن السياق المألوف، بقدر ما تأتي امتدادا طبيعيا لسلسلة من الصراعات والمعارك التي لا تكاد تنتهي حول تقاسم مناصب الدولة والتي حولها نظام المحاصصة المتوافق عليه أصلا بين القوى المتصارعة ذاتها إلى غنائم توزع على الأكثر نفوذا بغض النظر عن كفاءة وقدرة ونزاهة من يتولونها.
بغداد – جاء الجدل الحادّ الدائر في العراق حول تمرير قائمة السفراء الجدد للبلاد كأحدث مظهر على مساوئ نظام المحاصصة الحزبية والطائفية والعرقية المستقر منذ أكثر من عقدين كعرف متوافق عليه ومعمول به في إدارة شؤون الدولة واختيار القائمين على مختلف مؤسساتها وذلك على حساب القدرة والكفاءة وحتى السمعة ونظافة اليد.
ولم تشذّ عملية توزيع مناصب السفراء وتقاسمها بين القوى المتنفذة والتي اكتملت بتصويت البرلمان على القائمة وسط حالة من الهرج والمرج ومخالفات إجرائية صريحة، عن ذلك العرف رغم أنّ الاحتجاجات على العملية أوحت بشيوع حالة من الوعي وصحوة الضمير السياسية عندما ركّز المحتجون والمنتقدون على اعتماد مقاييس القرابة العائلية والانتماء الحزبي في اختيار السفراء على حساب الخبرة والكفاءة والقدرة على تمثيل البلد في الخارج وخدمة مصالحه والدفاع عنها.
ومع ذلك هوّن متابعون للشأن العراقي من أهمية الكثير من تلك الاحتجاجات والانتقادات معتبرين أنّها امتداد لعملية المحاصصة ذاتها، لافتين أن الكثير من الأصوات الناقدة والمحتجة تترجم غضب قوى لم تحصل على حصص مجزية من مناصب السفراء، بينما يترجم المدافعون عن القائمة التي صوت عليها مجلس النواب رضا قوى أخرى نالت حصصها وباتت غير مستعدّة للتنازل عنها والتفريط فيها.
عامل الانتماء الأسري والقرابة العائلية كان واضحا في إسناد منصب سفير لأفراد من أسر المشهداني والعامري ومشعان الجبوري
وأقر مجلس النواب العراقي قائمة السفراء الجدد المرسلة من رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لكن العملية لم تمر بهدوء، إذ اعترض عدد من النواب بشدّة على سير الجلسة وطريقة إدارتها متهمين رئيس المجلس محمود المشهداني بخرق النظام الداخلي والتغاضي عن عدم اكتمال النصاب القانوني، بينما اعترض نواب آخرون وسياسيون وقادة رأي على محتوى القائمة ذاتها مشككين في أهلية الكثير من والأسماء التي وردت فيها وقدراتهم على الاضطلاع بمهام السفراء الدقيقة والمهمة لسمعة البلد وعلاقاته مع المجتمع الدولي.
وبالنسبة للمعترضين فإنّ اعتماد مقياس الانتماء والقرابة كان شديد الوضوح من خلال إسناد منصب سفير لأفراد من عائلات مسؤولين كبار وقادة حزبيين من بينهم رئيس البرلمان محمود المشهداني وزعيم ميليشيا بدر هادي العامري والسياسي مشعان الجبوري.
وهدّد نواب بالطعن أمام القضاء في شرعية جلسة المصادقة على قائمة السفراء. وقال النائب عامر عبدالجبار لوسائل إعلام محلية إنّ الجلسة عقدت بحضور مئة وتسعة وستين نائبا وبعد عرض القائمة للتصويت انسحب قرابة الثلاثين نائبا وغادروا القاعة، إلا أن التصويت جرى رغم كسر النصاب القانوني للجلسة. فيما كتب النائب رائد المالكي على منصة إكس “أبدینا اعتراضنا على الآلية والطريقة التي تم بها تمرير قائمة السفراء في مجلس النواب وبشكل مخالف للنظام الداخلي،” مضيفا أن “التصويت على القائمة تم جملة واحدة ودون أن يتم إدراجها على جدول الأعمال ابتداء أو التصويت على إضافتها للجلسة، لذا فهي معرضة للطعن من كل ذي مصلحة.”
أما النائب عن المكون التركماني أرشد الصالحي فعبّر في مقطع مصور داخل مبنى البرلمان عن استغرابه من فوضى وعدم انتظام في آلية تمرير القوانين، محمّلا هيئة رئاسة مجلس النواب ممثلة بالمشهداني مسؤولية الأخطاء والمخالفات القانونية في تمرير قائمة السفراء المثيرة للجدل.
ووصف النائب مختار الموسوي جلسة التصويت على السفراء بالمهزلة، مؤكدا أن التصويت كان غير قانوني، مشيرا إلى أن الحكومة ورئيس البرلمان فرضا إرادتهما على المجلس، وهو ما اعتبره سابقة خطرة، خاصة مع وجود نجل رئيس البرلمان ضمن قائمة السفراء الجدد.
وأضاف متحدثا لوسائل إعلام محلية أن “عملية التصويت تمت في جو صاخب، وهناك شكوك كبيرة بشأن عدد الأصوات،” مشيرا إلى أن “بعض الأسماء في القائمة تم استبعادها من الترشح للانتخابات وفق فقرة حسن السيرة والسلوك.” وعبّر النائب عن ائتلاف “أساس” الذي يتزعمه نائب رئيس مجلس النواب محسن المندلاوي عن استيائه من تكرار التصويت على قضايا مهمة دون وجود نصاب قانوني مكتمل.
نواب يهددون بالطعن أمام القضاء في شرعية جلسة المصادقة على قائمة السفراء، نظرا لأن التصويت جرى رغم كسر النصاب القانوني للجلسة
وقال متحدّثا لوكالة شفق نيوز الإخبارية: “للأسف الشديد أكثر من مرة نُفَاجَأُ من قبل رئيس مجلس النواب بالتصويت دون نصاب مكتمل في الجلسة.” ولم ينف النائب وجود “بعض الأسماء في القائمة محترمة وتمثلها شخصيات دبلوماسية وأكاديمية”، مستدركا بأنّ “كثيرا من الشخصيات غير معروفة ولم تُعرض سيرها الذاتية على النواب.
وفي مقابل كل تلك الاعتراضات رحب رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بقرار البرلمان، مثمّنا روح التعاون التي أبدتها رئاسة المجلس ولجنة العلاقات الخارجية النيابية والقوى السياسية لحسم هذا الملف المعلق منذ عام 2009.
وأشار السوداني في بيان صدر عن مكتبه إلى حرص حكومته على إنهاء حالة الفراغ التي استمرت لسنوات في بعض مواقع العمل الدبلوماسي، ضمن إطار الإصلاح الإداري في جميع مؤسسات الدولة، الذي تبنته الحكومة في منهاجها الوزاري وبرنامجها الحكومي.
وذكر أن خطوة تعيين السفراء ستعزز قدرة المؤسسة الدبلوماسية على القيام بدورها الدستوري والقانوني، بما يخدم المنفعة العامة لأبناء الشعب العراقي، وفق نص البيان. وأكد على أهمية أن يؤدي السفراء مهامهم على أكمل وجه في تمثيل العراق خارجيا وحفظ مصالحه ورعاية العراقيين في البلدان التي سيخدمون فيها.
ومن جانبها، رحبت وزارة الخارجية العراقية بالتصويت على القائمة وأكدت في بيان منفصل أن “هذه الخطوة ستسهم في تعزيز الحضور الدبلوماسي للعراق في الساحة الدولية، وتوسيع شبكة العلاقات مع دول العالم، فضلا عن دعم الجهود الرامية إلى حماية المصالح الوطنية العليا وخدمة أبناء الجالية العراقية في الخارج.” وأضاف البيان أن “الوزارة تجدد التزامها بالعمل على تمكين السلك الدبلوماسي من أداء مهامه على نحو يليق بمكانة العراق ودوره الفاعل إقليميا ودوليا.”
وقال مراقبون إنّ هذا الموقف الحكومي مفهوم باعتبار أن ترتيب شؤون السلك الدبلوماسي بعد طول انتظار وتلكؤ بات أمرا ضروريا مع اقتراب نهاية الدورة النيابية وإجراء انتخابات برلمانية لا يُعلم كم ستدوم فترة ترتيب شؤون السلطة وتعيين حكومة جديدة في ضوء نتائجها.