مصر تحت ضغط زيادة صامتة.. ربع مليون نسمة في شهرين رغم تراجع المواليد
القاهرة – دقّت الساعة السكانية، المثبتة على مبنى الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، ناقوس التحدي الديموغرافي الجديد، حيث أعلنت الثلاثاء وصول عدد سكان البلاد في الداخل إلى 108 ملايين و250 ألف نسمة.
وهذا الرقم ليس مجرد إحصائية، بل يمثل ضغطا متناميا ومستمرا على الموارد والبنية التحتية، مسجلا زيادة قدرها 250 ألف نسمة خلال 60 يوما فقط، أي بمتوسط زيادة يومية تتجاوز 4 آلاف نسمة.
وتأتي هذه القفزة في عدد السكان لتلقي بظلالها على جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، رغم تسجيل مؤشرات إيجابية أولية في خفض معدلات المواليد.
ففي الوقت الذي يستمر فيه النمو السكاني بوتيرة سريعة، سجل عدد المواليد في مصر تراجعا خلال عام 2024 ليصل إلى 1.9 مليون مولود، مقارنة بـ 2.044 مليون مولود في العام السابق، مسجلا انخفاضا بنسبة 3.7 في المئة، كما انخفض معدل المواليد من 19.4 مولود لكل ألف نسمة عام 2023 إلى 18.5 مولود لكل ألف نسمة في 2024.
ويشير هذا التراجع في معدل المواليد، الذي وصفه نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الصحة والسكان المصري خالد عبدالغفار، في أبريل الماضي، بأنه "أقل معدل نمو سكاني في تاريخ البلاد خلال الربع الأول من عام 2025"، إلى أن جهود الدولة في تنظيم الأسرة بدأت تؤتي ثمارها.
لكن، الزيادة الصافية المستمرة التي تبلغ ربع مليون نسمة كل شهرين تؤكد أن مصر لا تزال تعاني من "الزخم السكاني"، حيث يفوق العدد الهائل للسكان في سن الإنجاب أي انخفاض في معدل الإنجاب الكلي.
وتبرز الخريطة السكانية للمحافظات المصرية عمق مشكلة التوزيع السكاني، إذ تتركز الأغلبية الساحقة في شريط ضيق من وادي النيل والدلتا.
ويكشف التوزيع السكاني عن تركز خانق للكتلة البشرية المصرية، حيث تتصدر محافظة القاهرة القائمة كأكبر حمولة ديموغرافية بواقع 10.5 مليون نسمة، لتصبح بؤرة الجذب والضغط الأكبر على الخدمات والمرافق، فيما تأتي الجيزة كظل لا ينفصل، مسجلة 9.8 مليون نسمة، مشكلتين معا شريان العاصمة المزدحم الذي يستهلك الجزء الأعظم من الموارد.
يتبع هذا الثنائي العملاق تجمع كثيف آخر في دلتا وصعيد مصر، تتقدمه الشرقية بـ8.1 مليون نسمة، ثم الدقهلية والبحيرة بأكثر من 7 ملايين نسمة لكل منهما، لتؤكد هذه الأرقام أن التحدي السكاني في مصر ليس مجرد زيادة في الأعداد، بل هو أزمة "اكتظاظ جغرافي" مركزة في مناطق محدودة، تمتد جنوبا لتشمل المنيا (6.6 مليون نسمة) وسوهاج (6 ملايين نسمة)، مما يبقي المدن الرئيسية تحت وطأة كثافة لا مثيل لها.
وعلى الجانب الآخر، تتوزع بقية الكتل السكانية بأعداد كبيرة نسبيا ولكنها أقل كثافة، حيث تأتي أسيوط بـ 5.3 مليون نسمة والمنوفية بـ 4.9 مليون نسمة والفيوم بـ 4.2 مليون نسمة، فيما تتقاسم محافظتا كفر الشيخ وقنا حوالي 3.8 مليون نسمة لكل منهما، وبني سويف بـ 3.7 مليون نسمة.
وتظهر الأرقام تراجعا كبيرا في الكثافة بالمحافظات الحدودية والقنواتية، فلا يتجاوز عدد سكان أسوان ودمياط حاجز 1.7 مليون نسمة لكل منهما، وكذلك الإسماعيلية والأقصر بـ 1.5 مليون نسمة.
أما المدن ذات الكثافة الأقل، فلا تتجاوز السويس وبورسعيد حاجز 800 ألف نسمة، وتنخفض الأعداد بشدة في المحافظات الصحراوية الكبرى، مثل شمال سيناء (473.4 ألف نسمة) والبحر الأحمر (416.6 ألف نسمة)، وصولا إلى الأقل كثافة على الإطلاق وهي الوداي الجديد (274.9 ألف نسمة) وجنوب سيناء (119.1 ألف نسمة).
ويؤكد هذا التباين الحاد أن المشكلة تكمن في تركيز الغالبية العظمى من السكان في مساحة لا تتجاوز 7 في المئة من إجمالي مساحة مصر.
وفي هذا الصدد، أشار المسؤولون المصريون مرارا إلى أن سوء التوزيع السكاني يمثل بعدا لا يقل خطورة عن الزيادة السكانية نفسها، فقد أكد نائب وزير الصحة والسكان في أغسطس الماضي على أن الزيادة السكانية لا تزال تمثل تحديا كبيرا "يؤثر على الموارد الاقتصادية، الاجتماعية، والبيئية، ويعيق جهود الدولة لتحسين مستوى المعيشة في ظل التحديات العالمية".
ويشكل التنامي السكاني ضغطا متصاعدا ومباشرا على قدرة الدولة المالية والبنية الخدمية، حيث يظهر هذا الضغط القوي على الموازنة العامة، إذ تتطلب الزيادة السكانية المستمرة إنفاقا حكوميا هائلا ومطردا على الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والنقل والإسكان، وهو ما أكده رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، بقوله إن الزيادة السكانية "عبء لا تستطيع حتى الدول الغنية التعامل معه"، مشددا على ضرورة وقفة وطنية حاسمة لمواجهته.
ويؤدي هذا العبء إلى ارتفاع نفقات الدولة بشكل مستمر، مما يضغط على الموازنة العامة ويقلل من قدرة الدولة على ضخ استثمارات رأسمالية في قطاعات الإنتاج والتنمية الحقيقية.
وفي هذا السياق، أوضح مدبولي أن الزيادة السكانية تفرض ضرورة التوسع في إنشاء مدن جديدة ومناطق عمرانية قادرة على استيعاب هذه الزيادة، وهو ما يفسر توجه الدولة نحو المشروعات القومية الكبرى لإعادة التوزيع.
وعلى صعيد الاقتصاد الكلي وتأثيره على المواطن، يحدث تآكل مستمر وفعلي في نصيب الفرد من النمو، فبالرغم من تسجيل معدل نمو حقيقي للناتج المحلي الإجمالي، الذي وصل إلى 3.5 في المئة خلال الربع الأول من العام المالي 2024/2025 وفقا لوزير الصحة والسكان، إلا أن معدل النمو السكاني المرتفع يظل معضلة مزمنة تفشل شعور المواطن العادي بآثار هذا النمو الإيجابي.
وتعمل الزيادة السكانية على تآكل نصيب الفرد من الدخل القومي، مما يبقي مستويات الفقر والبطالة مرتفعة. كما يؤدي إلى زيادة نسب الإعالة، مما يثقل كاهل الأسر خاصة في المناطق الأكثر فقراً وريف الوجه القبلي التي تسجل أعلى معدلات للإنجاب.
كما يرتبط هذا التآكل الاقتصادي بالتحدي العميق لفرص العمل والبطالة، فبالرغم من أن قوة العمل في مصر بلغت 32 مليون نسمة عام 2024، فإن الزيادة السكانية المستمرة تولد تحديا مضاعفا لتوفير فرص عمل جديدة سنويا تتناسب مع الأعداد الغفيرة الداخلة حديثا إلى سوق العمل.
وبالرغم من أن معدل البطالة بلغ 6.6 في المئة عام 2024، إلا أنه يرتفع بشكل حاد ومقلق بين الإناث ليصل إلى 17.1 في المئة، مما يشير بوضوح إلى أن الزيادة السكانية الهائلة لا تترجم بالضرورة إلى "منحة ديموغرافية" قادرة على دعم الاقتصاد، ما لم يتم الاستثمار بفعالية وكفاءة عالية في تطوير وتأهيل هذا "الرأسمال البشري" ليكون قوة إنتاجية.