"مصائر" ربعي المدهون: أدب الذاكرة
لا تخرج رواية ربعي المدهون “مصائر، كونشيرتو الهولوكوست والنكبة” عن الثيمة الأثيرة في الرواية الفلسطينية، وهي الذاكرة. غالبية موضوعات الأدب الفلسطيني تتكئ على الذاكرة، ولكن فرادة رواية “مصائر” في أن الذاكرة فيها لم تعد ذات اتجاه واحد، من الماضي إلى الحاضر، بل تجاوزتها إلى باقة من الذاكرات متعددة الاتجاهات.
فبالإضافة إلى الذاكرة الكلاسيكية المعروفة في مثل هذا النوع من الأدب، ثمة ذاكرة معاصرة تسير على قدمين، وذاكرة أخرى مشتهاة، وذاكرة مستقبلية، وذاكرة مستعارة. والحق أن ربعي المدهون لم يترك نوعا من الذواكر حول فلسطين إلا ووظفه في حبكة الرواية، التي أتت أشبه بمرافعة أدبية طويلة أعادت التذكير بجوهر الصراع القائم على أرض فلسطين.
يتخفف ربعي المدهون من تعقيدات اللحظة الفلسطينية البائسة، وينطلق نحو النكبة في انعكاساتها على مصائر الفلسطينيين المنكوبين، حتى في بقائهم على أرضهم. فالشرائح التمثيلية التي يختارها المدهون بعناية ودراية كبيرتين، من المتبقين في ديارهم، تتجاوز حيواتها ومصائرها سعيد أبي النحس بطل رواية إميل حبيبي”المتشائل”، وخلدون- دوف في رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا”، ليرسم فيها لوحة شديدة الخصوصية والتنوع، لم يطرق تفاصيلها كاتب فلسطيني آخر، على حد علمي، خصوصا، لجهة علاقة الشخصية بواقعها المتعين دون أي أدنى اتكاء على الحامل السياسي أو الأيديولوجي، وهذا ما منح الرواية عمقها الإنساني وحررها من ربقة الشعار، وقيد الأفكار المسبقة.
ذاكرة الشخصيات الأخرى التي اختارت أو أجبرت على الرحيل عن فلسطين، تتحول إلى كائنات حية تسير على قدمين، جميع الشخصيات التي يتناولها المدهون من هذه الشريحة، تعيش من خلال ذاكرتها المثقلة بفلسطين وانعكاسات نكبتها على الذات، فاللاجئ في الرواية، يبدو كائنا مسيّرا تقوده ذاكرته إلى مصيره المحتوم في هذه الحياة، كما تقود أشعة الضوء الفراشة! تبدو الذاكرة هنا أشبه بالقدر، فحلم العودة يورثه اللاجئ لابنه كما يورثه صفاته الخلقية.
وعلى الجانب الآخر من الصورة، تتبدى مصائر أخرى، صنعها الهولوكوست وما نتج عنه من تغيير في الخرائط والمصائر والخيارات.
لا يتردد ربعي المدهون لحظة في أنسنة عدوه، ويصل الأمر إلى حد الاقتراب من المحظور في الأدب الفلسطيني، ولكن هذه الأنسنة تبدو مسوغة وضرورية، حين يعقد القارئ تلك المقارنة الحتمية بين النكبتين. بين متحف “الهولوكوست” المنجَز، ومتحف النكبة المتخيَّل. وهنا تغدو المفارقة أكبر من أن تحتويها الكلمات أو تدركها البلاغة، فالنكبة الإسرائيلية أنجزت وأصبحت صورة في متحف، أما نكبة الفلسطيني فهي حياة يومية تتنفس وتأكل وتتجول وتسافر ولا تموت، يتناقلها الأبناء عن الآباء والأحفاد عن الأجداد.
“مصائر” ربعي المدهون، رواية جذابة بلغتها وذكاء حبكتها، والتقاطها لجوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في بعده الإنساني العميق، بعد أن كان التعامل معه محظوراً في الأدب الفلسطيني لوقت طويل، نتيجة طغيان السياسة والأيديولوجيا.
كاتب من سوريا مقيم في الإمارات