مزارع عراقي يراقب الحقول من السماء
بغداد- يقدّم الشاب محمد الرويشدي نفسه بوصفه من جيل “التقانة الزراعية الدقيقة”، جيل يرى أن الزراعة الحديثة لا تقوم على الحدس، بل على تحليل البيانات الطيفية والتقارير العلمية.
كانت البداية كما يروي لوكالة الأنباء العراقية حين عمل مع مستثمر يمتلك 1500 دونم (الدونم يساوي 1000 متر مربع) ولاحظ أن القرارات تُتخذ بالتقدير لا بالبيانات، فقرّر مراقبة الأرض بالأقمار الصناعية مجانًا لمدة عام كامل، فكانت النتيجة غير متوقعة: توفير مبالغ كبيرة ورفع الإنتاج بنحو 30 في المئة. ومن تلك التجربة وُلدت فكرة مشروعه “الجبل الزراعي” الذي يقوم على تحويل صور الأقمار الصناعية إلى قرارات تنفيذية داخل الحقل.
ويختصر الرويشدي مسيرة انتقاله من العمل الميداني في الزراعة إلى إدارة الحقول عبر الفضاء بجملة واحدة: “حين قرّرت أن أراقب الأرض من السماء تغيّر كل شيء.”
الرويشدي يتحدث عن متابعة 20 ألف دونم لمدة عام كامل؛ والنتيجة وفق أرقامه: توفير 600 مليون دينار عراقي كانت تُصرف خطأً على السماد والمبيدات
وأكد أن هدفه الأول هو خدمة المزارع العراقي عبر أدوات ذكية مبسّطة: قراءة طيفية للمحصول، توصيات دقيقة للري والتسميد، ومؤشرات تُتابع دوريًا لتقليل الهدر وزيادة الغلة.
ويسكن الرويشدي، البالغ من العمر 27 سنة، في النجف الأشرف ودرس الاستشعار عن بُعد في جامعة الكرخ ببغداد، وهو المجال الذي صار نواة مشروع حياته “الجبل الزراعي”، وفق ما أوضحه لوكالة الأنباء العراقية.
ومنذ 2015 جرّب الرويشدي أكثر من 15 مشروعًا في بغداد، بين تجارة إلكترونية وبناء براندات وصناعة تطبيقات وتجارب في الجيولوجيا، حيث تراكمت التجارب، غير أنّ الأثر الأوضح جاء من الاحتكاك المباشر بالمستثمرين والمزارعين؛ وهناك رأى المعاناة اليومية على الأرض، وتشكّل سؤال عملي لديه حول كيفية ترجمة صور الأقمار الصناعية إلى قرار داخل الحقل يخفّض الكلفة ويزيد الغلة.
وفي أواخر 2022 تبلورت فكرة “الجبل الزراعي” حين لاحظ الرويشدي أن الكثير من قرارات المزارعين تُتخذ من دون بيانات دقيقة. وخرج بسؤال واحد صار بوصلته، وهو كيف نجعل المزارع يعرف أرضه كما يعرف راحة يده.
وقال الرويشدي لوكالة الأنباء العراقية إن “الأقمار الصناعية تمنحنا نظرة من السماء تغطّي الحقل كلّه مهما ابتعد.”
وأضاف أن الزيارات الميدانية وحدها مكلفة وغير دقيقة، خصوصًا في أراضي الصحراء صعبة الوصول، وأنه عبر الصور الفضائية يحصل على سرعة في الرصد، ودقّة أعلى، ومراقبة مستمرة.
وتابع موضحا تركيبة الفريق “هناء قاسم تدير التسويق وصناعة المحتوى وبناء صورة الشركة والتواصل مع الزبائن وحسن حيدر يتولّى إدارة الفريق وتحليل البيانات الفضائية والمتابعة الميدانية لأنظمة الري وأكرم الشيباني يختص بتحليل البيانات وإعداد التقارير الزراعية، أمّا الرويشدي، المؤسّس، فيضع الرؤية ويجلب الزبائن ويقود التطوير والتوسّع.”
◄ جيل يرى أن الزراعة الحديثة لا تقوم على الحدس، بل على تحليل البيانات الطيفية والتقارير العلمية
ويخسر المزارع العراقي من إنتاجه سنويًا بسبب إدارة ريّ غير مُحكمة، واستخدام مفرِط للسماد والمبيدات، وغياب مراقبة علمية للأرض. ويواجه الرويشدي هذه المشكلات بتحليل الطيف الضوئي لسطح التربة والنبات عبر الأقمار الصناعية، لكشف مؤشّرات الإجهاد والخلل قبل تفاقمها وتقديم توصيات تنفيذية داخل الحقل.
ويتسلم الزبون تقريرًا تحليليًا بصريًا يضم خرائط حرارية تُظهر مناطق الضعف والقوة في نمو النبات، مع توصيات دقيقة تخص السماد والماء. و”بمجرد استلام التقرير يستطيع المزارع تعديل الري والتسميد فورًا، فيرفع إنتاجه ويقلّل الكلفة.”
ويتحدث الرويشدي عن متابعة 20 ألف دونم لمدة عام كامل؛ والنتيجة وفق أرقامه: توفير 600 مليون دينار عراقي كانت تُصرف خطأً على السماد والمبيدات، وزيادة في الإنتاجية بنسب تتراوح بين 25 و30 في المئة.
ويعتمد الفريق على بيانات مفتوحة من “لندسات ” و”سنتينال”، إلى جانب اشتراكات تجارية عالية الدقة. وللتعامل مع الغبار والسحب تُدمج صور متعددة التواريخ وتُطبَّق خوارزميات تصحيح الغلاف الجوي لضمان خرائط مؤشرات صالحة لاتخاذ قرار سريع.
وأكد الرويشدي لوكالة الأنباء العراقية أنّ “بيانات الحقول تُحفظ على خوادم سحابية مُشفّرة، مع قصر حقّ النفاذ على مالك الأرض والفريق التقني في الجبل الزراعي”، وقال “لا نشارك أي معلومة مع أي طرف إلا بموافقة خطيّة من صاحبها.” وأوضح أنّ هذا الإجراء وُضع لحماية خصوصية المزارع وحفظ مصالحه.
وحول تسعيرة الخدمة بيّن أن الأسعار تتغيّر بحسب المعطيات ونوع الخدمة، مع التأكيد بشكل واضح على أن تبقى في متناول المزارعين.
وذكر أن هدفهم بسيط، وأن ما يدفعه المزارع يعود عليه وفّرًا أكبر بعشرة أضعاف، في إشارة إلى تقليل الهدر في السماد والمبيدات والماء عبر القرار المبني على البيانات.
وتابع أن “الإقناع كان التحدّي الأول،” لافتاً إلى أن “الكثيرين لم يقتنعوا بأنّ صور الأقمار الصناعية قادرة على تغيير طريقة العمل داخل الحقل، إلا أنه بعد النتائج الأولى تبدّل الموقف، وأصبح الذين تردّدوا في البداية أقرب إلى التجربة، حيث تعلّمت أن النتيجة أقوى من الكلام.”
ويرى خبراء الزراعة في العراق أن هناك فرقا ملحوظا بين الزراعة التقليدية والزراعة الذكية والحديثة، التي تعتمد على التكنولوجيا والبيانات المقدمة من مساندة الأقمار الصناعية، المخصصة لتتبع حالة التربة ودرجة نمو المحصول وعوامل أخرى، تساعد المزارعين على تدارك أخطاء الزراعة ومراقبة محاصيلهم بشكل مستمر. في هذه الحالة حتمًا سيكون الإنتاج الأوفر من نصيب المشروع الذي يعمل بتقنيات الزراعية الذكية والمتقدمة.