محمود حامد يستخرج من طيّات السكون حكايات الذاكرة والصراع والحنين
سوزان سعد
زرت – مؤخراً – معرض الفنان الدكتور محمود حامد الذي جاءت لوحاته تحت عنوان “طيات السكون”، وقد سعدت كثيراً برؤية تلك المعروضات التي تُعبر عن رؤية فنان مُتميز صاحب تجربة ثريّة، ولعل من يعرفون الفنان الدكتور محمود حامد لن يفاجئوا بتك الأعمال التشكيلية الراقية، التي واصل فيه تألقه وإبداعه اللافت.
لكن ما شدّني حقاً – هذه المرة – هو تكنيك “الميكسد ميديا” المستخدم في اللوحات، وتلك الألوان التي تنبض دفئاً وتفيض حياة. هذا الأسلوب لطالما كان قريباً إلى قلبي، وربما لهذا السبب وجدت نفسي أقف أمام كل لوحة على حدة، أتأمل تفاصيلها، أقرأ ما بين ظلالها، وأحاول أن أفهم كيف يستطيع فنان أن يعبّر عما بداخلنا نحن من مشاعر دفينة وأفكار عميقة بفرشاة ومجوعة ألوان.
مرآة اللون والضوء
في معرض “طيات السكون”، كان الصمت بحد ذاته لغة، والسكينة صوتاً داخلياً يهمس في أذن المتلقي. لوحات المعرض لم تكن مجرد تشكيلات جمالية، بل حالات وجدانية تتقاطع فيها الذات مع الذاكرة، والرمز مع الإحساس، واللون مع الضوء. ومن خلال تلك الرحلة اللونية، استطاع الفنان أن يقدّم تجربة إنسانية كاملة؛ تجربة تُلامس الروح قبل العين.
حين تتأمل لوحات “طيات السكون”، تشعر أن الفنان لا يكتفي بتصوير العالم الخارجي، بل ينقّب في أعماق النفس الإنسانية. التفاصيل الصغيرة في أعماله – خطوط، رموز، تقاطعات لونية، لمسات من الضوء – تتحول إلى حكايات عن الزمن، عن الذاكرة، عن الإنسان في صراعه وصمته وحنينه. إنها لوحات تُشبهنا، تعكس ملامحنا الداخلية في لحظة صدق نادرة.
ما يميز تجربة محمود حامد هو الصدق الفني والإحساس الإنساني العالي؛ فهو يرسم بعين العالم وبقلب الطفل، ويجعل من كل عمل فني مساحة للحوار بين الفن والحياة. لذلك لا يغادر المشاهد معرضه كما دخله، بل يخرج محمّلا بأسئلة وتأملات جديدة، وربما بشيء من السكون الجميل الذي يوحي به عنوان المعرض نفسه.
إن زيارتي لهذا المعرض – الذي أقيم في قاعة بيكاسو للفنون بالعاصمة المصرية القاهرة، وافتتحه رئيسة جامعة حلوان الدكتور السيد قنديل في حضور نخبة من كبار الفنانين المصريين – لم تكن مجرد تجربة بصرية، بل كانت رحلة داخل الذات. شعرت أن كل لوحة تهمس لي بشيء من الحقيقة، وأن الألوان تتحدث لغة لا تُقال بالكلمات. ولعلّ هذا هو سرّ الفن الحقيقي، أن يجعلنا نرى أنفسنا من جديد، في مرآة اللون والضوء والحلم.
تجربة فنية
نُشير هنا، إلى أن الفنان الدكتور محمود حامد، عميد كلية التربية الفنية بجامعة حلوان، يُعد واحداً من أبرز الأسماء في الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة. وُلد بمحافظة الفيوم عام 1963، وتخرّج في كلية التربية الفنية بجامعة حلوان عام 1986، ثم حصل على الماجستير عام 1992 والدكتوراه عام 1998 في فلسفة التربية الفنية، تخصص الأشغال الفنية والتراث الشعبي. وخلال مسيرته الأكاديمية الطويلة، ظل محافظاً على توازن نادر بين دوره كأستاذ أكاديمي باحث، وكفنان صاحب رؤية متفردة ومشروع فني واضح المعالم.
تُعد أعمال محمود حامد امتداداً لفكرٍ يؤمن بأن الفن ليس انعزالاً عن الواقع، بل وسيلة لفهمه وإعادة صياغته. فهو لا يقدّم التراث الشعبي كقالب جامد أو مادة زخرفية، بل يعيد اكتشافه بمنظور معاصر، في مزج بين الرمزية والخيال، وبين الأصالة والتجريب. هذه المعادلة تظهر بوضوح في معرضه «طيات السكون»، حيث تتحول الطبقات اللونية والخامات المتعددة إلى حوار بصري عميق بين الذاكرة والحاضر.
يُعرف الفنان بأسلوبه القائم على العمل بالخامات المركبة (Mixed Media)، حيث يستخدم الورق، والخشب، والمعادن، والدهانات الزيتية والأكريليك، ليصنع من السطح اللوحي فضاءً نابضاً بالملمس والحركة. اللون عنده ليس مجرد اختيار، بل كائن حيّ يتنفس داخل اللوحة. الأزرق عنده هدوء وامتداد للسماء، والذهبي دفء الذاكرة، والبني ارتباط بالأرض والإنسان. وعبر تلك العلاقات اللونية تتشكل لغة خاصة، تشبه الموسيقى الهادئة التي تُقال دون كلمات.
شارك الفنان في العديد من المعارض المحلية والدولية، مثل «عشق الجدران» بمتحف الفن المصري الحديث، و«خيالات الظل» بجاليري بيكاسو إيست، إضافة إلى مشاركاته في معارض في الصين وسويسرا وصربيا وقبرص وعمان. أما معرض «طيات السكون»، فيُعد تتويجاً لمسيرة فكرية وجمالية ناضجة، يتأمل فيها الفنان فكرة السكون كقيمة وجودية، لا بوصفها توقفاً، بل لحظة وعي وإنصات داخلي لما وراء الظاهر.
نال محمود حامد العديد من الجوائز الفنية الرفيعة، من بينها الجائزة الثانية في التصوير والحفر في المسابقة القومية، وجائزة لجنة التحكيم في صالون الشباب، وجائزة النقد الفني من المجلس الأعلى للثقافة. واقتُنيت أعماله في مؤسسات مرموقة مثل متحف الفن المصري الحديث، ووزارة الثقافة، وجامعة حلوان، إضافة إلى مجموعات خاصة وسفارات في الخارج.
أما على الصعيد الأكاديمي، فقد ترك بصمة مؤثرة في تطوير كلية التربية الفنية بجامعة حلوان، سواء من خلال البرامج التعليمية أو الأنشطة الميدانية والمعارض الطلابية، مؤمناً بأن تعليم الفن لا يقتصر على المهارة، بل يتجاوزها إلى بناء الشخصية المبدعة القادرة على التفكير النقدي والتعبير الحر.