محمد بن عيسى الفنان الفوتوغرافي.. زاوية أخرى من شخصية رجل آمن بقوة الثقافة
احتفى موسم أصيلة الثقافي في دورته الخريفية هذا العام بمؤسسه الراحل محمد بن عيسى، الذي ترك في مدينته أصيلة بصمة لا تمحى، تجاوزت حدود المدينة إلى إشعاع دولي، وضمن هذا الاحتفاء برجل كرس حياته لقوة الثقافة الناعمة ونشر الفكر وثقافة الحوار، قدم كتيّب عبارة عن كاتالوغ يضم صورا التقطها تكشف عن جانب آخر من شخصيته ورؤاه.
تطبَّع محمد بنعيسى بمدينته بناسها وجدرانها وبحرها ودروبها وعاداتها فأصبحت وجدانه وشخصيته، تجسدت فيه فأراد أن تبقى كل اللحظات التي عاشها في مدينته الصغيرة أصيلة مخلدة، فكرس جزءا من وقته حاملا لكاميرا بعين الصحفي الفنان ليوثق تفاصيلها.
التصوير الفوتوغرافي كان جزءا من شخصية الرجل الذي عاش ثمانية وثمانين عاما يمارس الفن بطريقته وأسلوبه، سياسة وفكرا ودبلوماسية وتصويرا، فتطبعت أصيلة به أيضا لتصبح مدينة الفنون والإنجاز الفني على مدى عقود طويلة، وكان أن أصدرت ابنته بمناسبة موسم أصيلة الثقافي في دورته الخريفية السادسة والأربعين هذا العام، بعضا من صوره في كاتالوغ “مسام جلد”، الذي يؤرخ لهذه اللحظات من حياة الراحل.
درب الحياة
“كأس شاي ملتهب على منصة سماء ذهبية/ كل يوم يحمل نفس اللغز/ الطاعنون في السن يتجردون/ والشباب ينتظرون جلوساً فوق الكراسي/ رعشة ملاك يصطاد في غفلة من الناس/ الزمن الذي يمضي صديق لا يقدر بثمن”.
بهذه الشذرات من قصائد الطاهر بنجلون، تفتتح شافية بن عيسى الكتيب/ الكاتالوغ الذي يضم كل الصور المعروضة برواق قصر الثقافة بأصيلة إلى غاية الحادي والثلاثين من ديسمبر المقبل، تحت شعار “مسام جلد”، صور التقطها الوالد الفنان، الأب العاشق لجمع الصور، لغروب أصيلة، لناسها، لأزرقها، لأزقتها الضيقة.
الأب الذي عشق آلة التصوير وهي تلتقط التفاصيل الصغيرة، السحنات، الضحكات، شغب الطفولة، مذاق الشاي، روائح الأمكنة، الزمن السائر والسائل، اللحظات الذائبة، ومتعة البساطة في كل شيء.
في الكتيب/ الكاتالوغ، تفكك شافية شيفرات رقيم المحبة، تكتشف أسرار الصمت وحكمته كما علمها الوالد، تتلمس ضوء القلب والروح، فتكتب: “أبي…/ ثم أعدت فتح كتابك/ دون قصد مني ذات يوم/ وجدته مثل شراع غمرته المياه/ وقد تجاور فيه المسافرون/ السماء والغيوم.. وروحي/ حطام سفينة/ وأنا غريقة في حضورك الناعم المتوهج”.
نقرأ أيضا ما خطه الراحل محمد بنعيسى سنة 1974عن عشقه للصورة التي قد “تصبح جملة أولى في خطاب طويل يرسم درب حياة”، مبينا بأن هذه الصور ليست مجرد لقطات عابرة، بل محاولة لجعل المدينة تهمس لسكانها، مضيفا “قد تكون هذه المجموعة سيرتي الذاتية، لكنني فضلت أن أرى فيها السيرة الذاتية للمدينة التي ولدت فيها، أصيلة”.
وليست هذه قصة أصيلة، بل هي بقايا لحظات من واقع متجمد بين دفتي الزمن يسير في حركة دائمة، تتقاذفه رياح التحول والتغيير، كما يقول الراحل بن عيسى، “الواقع الذي سعيت إلى التقاطه، هو ذاك الوجه المتحول للإنسان المغربي ذلك الإنسان الذي يُرى ولكن لا يُنظر إليه، ويُدرك دون أن يُحسّ بوجوده ويتعرف عليه دون أن يولى له أدنى اهتمام.”
وتابع “لا أزعم أنني أقدم صورة حقيقية عن الإنسان المغربي، فرؤيتي ليست سوى فسيفساء من حكايات ونصوص ومجرد شذرات متناثرة ضمن حدود الكل، هي فقط جملة أولى في خطاب طويل يرسم درب حياة. في كل صورة التقطتها من واقع المدينة اختبرت انتمائي وهويتي، فاستعدت كياني الذي كادت تجرفه رياح غريبة. رأيت الناس، رأيت الحجارة، رأيت السور، رأيت النور، ورأيت أيضاً الظلال والأشكال والأبعاد، ورأيتني عائداً إلى جوهر ذاتي.”
وأضاف “وجدت نفسي طفلاً، خبازاً صغيراً بين الخبازين يافعاً ، صياداً بين الصيادين ولكنني لم أغترب يوما في مدينتي، تجولت في ذاكرتي فوجدت نفسي عند الحلاق الذي ختنني، عند الفقيه الذي علمني سر الفعل والحرف، وفي ذاكرتي القابلة التي استقبلتني بحنان يديها الكبيرتين تحت نور النهار. نظرت حولي، رأيت الحشود تتدفق من القرى المجاورة كل خميس، يوم السوق، لاحظت الناس يغوصون في تفاصيل حياتهم اليومية الصغيرة؛ رأيت الرجال على الطاولات في المقاهي، ومعهم كؤوس الشاي وأعواد السجائر، يلعبون الورق ويلوحون بأيديهم، يتقاسمون لحظة من فرح الزمن.”
وذكر بن عيسى “تملكني الوجد، لأني كنت كل هؤلاء، فهذه هي جذوري، أسبح في ضباب نظراتهم المبللة، أجف عند أول شعاع شمس يدفئهم، أتغذى من الغبار الذي يخنقهم؛ الصيادون، العمال، والفلاحون.”
وواصل كما نقرأ في الكتيب “عادت بي طفولتي غارقة بين طيات الذكرى؛ جدتي تبحر بسردها في رحلة المجاهدين الذين حملوا جراحهم الموشحة بالحناء، حكايات النصاري، حكاية الجنية والبحار السبعة. وعادت طفولتي بمنظر الرجال الذين يستيقظون قبل الفجر بحثا عن خبز الصباح. وعادت أيضاً صورة ‘الله أكبر‘ بخط يمتد عمودياً فوق مئذنة الجامع الكبير.
من خلال هذه الرؤية، تولد لدي سؤالان عميقان من أنا؟ من هم الآخرون؟”
فن تأويلي

هذه الرؤية، وفيق ما كتبه بن عيسى،هي لقاء غير موضوعي بين الذكريات والواقع الحاضر. لم يكن قط فعلا متعمداً سوى شرط مسبق واحد: البقاء عند عتبة البيوت، عند عتبة الخصوصيات، بدافع الحياء ورفض لانتهاك السكينة.
وقال “لم أرغب أن ألتقط عن عمد صورًا لبعض المواقع مثل ‘لا برادا‘، رمز المدينة الجديدة، وفي المرة الوحيدة التي صورتها فيها، كان ذلك من مسافة بعيدة، هذا العمل الفوتوغرافي ليس يوميات، ولا سردًا تاريخيا، بل هو، في أرقى صوره، مجرد توثيق لعدد من الأحداث والوقائع، هو تجربة حية فقط.”
◙ الراحل كانت له شاعرية التقاط اللحظة الزمنية العابرة، التقاط الحياة العادية، لأصيلة، لأحيائها، عاداتها اليومية، أشيائها
لماذا اختار الراحل محمد بن عيسى أن يكون فنانا فوتوغرافيا؟ هل للأمر علاقة باختياره عالم الإعلام والصحافة في بداياته وارتباط المجال بالوثيقة البصرية؟ يجيب الناقد الجمالي شرف الدين ماجدولين عن هذا السؤال، بأن اختياره للفوتوغرافيا كان لاعتبارها فنا تأويليا.
ويضيف خلال حديثه في فعاليات خيمة الإبداع التي كرمت هذه السنة الراحل محمد بن عيسى أن عشقه للصورة كان نابعا من كونها “تلتقط ما لا يُرى بالعين المجردة، ولأن للفوتوغرافيا ذكاء والتماعة خاصتين في تحويل البديهي والعادي إلى شيء استثنائي عندما يؤطر في صورة تصبح خالدة في الزمن”.
الجوهر الإنساني لأي منجز فني يبقى الدعامة الأساسية لاستمراره وتنامي أشكاله وتطوره، كما يقول ماجدولين، مؤكدا أن الراحل “كانت له شاعرية التقاط اللحظة الزمنية العابرة، التقاط الحياة العادية، لأصيلة، لأحيائها، عاداتها اليومية، أشيائها..وبهذا كان يؤرخ للمدينة، ولزمن مغربي خاص”.

