مايا الحاج لـ"العرب": دورنا اليوم في حماية الذاكرة أكبر من أي وقت مضى
لا تخفى على أحد ندرة البرامج الثقافية على المحطات التلفزيونية في أغلب الأقطار العربية، وهو ما يعتبر تهميشا للثقافة، تحت ادعاء زائف بأنها بلا جمهور. ويكفي أن يظهر برنامج جاد لنرى متابعات كبيرة له أينما كان. وهكذا كان برنامج "العشرون" لمايا الحاج. "العرب" كان لها هذا الحوار معها عن خطوط هذا المشروع التلفزيوني وتفاصيل طبخته.
هيمنت الصورة على الحياة المُعاصرة في شتى المجالات والتسابق قائمٌ لتحويل المواد الثقافية والسياسية والاقتصادية إلى محتويات مرئية على المنصات الرقمية، وبذلك لم تعد الفضائيات مصدرا وحيدا للمعلومة أو محطة تنفردُ دون غيرها من الوسائل بتلبية متطلبات المشاهد الثقافية والترفهية، بل أقنع الحراك اللافت في الفضاء الافتراضي مُعظم القنوات الكلاسيكية بالبحث عن عناصر تجديدها في منابر رقمية.
وما انفك الجدل مستمراً وسط هذا التشابك بين الإعلام التقليدي ورديفه المنفتح على مختلف الخطابات بشأن الوظيفة التنويرية في المنهاج الإعلامي. والمتابع يُلاحظُ بأنَّ الاهتمام بالمجال الثقافي متواضع ضمن الأجندة الإعلامية وذلك بسبب الطابع النخبوي للمواضيع الثقافية كما أنَّ ما يهمُ المحطات الإعلامية هو زيادة عدد المتابعين وليس الجودة والنوعية.
قد يقودُ هذا المنحى إلى التضخم في الجهل وتلاشي الذاكرة الثقافية، أما والحال هذه فإنَّ أي بادرة للاهتمام بالقيم الثقافية على الصعيد الإعلامي تُعدُ خطوةً لإعادة الحيوية إلى أوردة الفكر والأدب، وهذا منشأ مغامرة الكاتبة والإعلامية اللبنانية مايا الحاج بإطلاق مشروع برنامج “العشرون.”
الثقافة والشاشة
بدأ موسمُ برنامج “العشرون” بحلقات متنوعة منها ما تم تخصيصه لأبرز عشرين رواية عربية في القرن العشرين. وفي الواقع أثارت نتائج هذه الحلقة نقاشاً حامياً في وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يؤكدُ بأنَّ الثقافة لا تقع ضمن الهامش بالنسبة إلى المتابعين وما تفتقده الثقافةُ ليس الجمهور، بل المساحة التي تتقاطع فيها أصوات النخبة والمتابعين.
لم يقتصر جدول “العشرون” على الأجناس الأدبية إنما شمل الأغاني الطربية والأعمال الدرامية والسينمائية. ولولا تجربة الحاج في الإعلام المكتوب وما تراكم لديها من الخبرة الناضجة عن طريق كتاباتها الصحافية ومتابعتها الدؤوبة للمشهد الثقافي لربما لم يحقق برنامجها نجاحاً يذكر.
لقد تفوقت الحاج في توظيف طاقاتها المقنعة في الاختيار والتقديم، وبهذا كسبت ثقة المتابع والمشارك، إذ مع كل حلقة تقدمها تتسع دائرة المهتمين بالبرنامج.
تسأل “ألعرب” مايا الحاج عن تقييمها لتجربتها في الإعلام المرئي، فتجيبنا: “أعتقد أنّ هذه التجربة هي امتداد لمساري في الصحافة المكتوبة. برنامج ‘عشرون‘ هو ثمرة الخبرة التي راكمتها على مدار سنوات في الصحافة الثقافية ولا أراه تجربةً منفصلة عما قدمته في السابق.”
وتضيف: “في الواقع، أنا راضية جدا عن التجربة التي قدمتني إلى جمهور أوسع وأكبر من دون أن أي مساومة على الجوهر الثقافي الهادف والمفيد. وهذه الفرصة ما كان يمكن أن تتحقق لولا وجود قناة مثل العربي2، الحريصة على تقديم برامج قيّمة وراقية ومختلفة عن النمط السائد في معظم القنوات ومواقع التواصل.”
وتتابع: “أشعر اليوم أنني في مكاني المناسب حيث أقدم محتوى يشبهني ويُكمل تطلعاتي الهادفة دوما نحو خدمة الثقافة والذاكرة الجماعية.”
أما عن أبرز التحديات التي تواجه من يريد تطويع الشاشة لخدمة المحتوى الثقافي، فتقول الحاج: “الإحساس بالمسؤولية أكبر على الشاشة، لأن العمل التلفزيوني يضعك في مواجهة مباشرة أمام المتلقي ويتطلب منك تفاصيل شكلية ولغة بصرية، إضافة إلى الاهتمام بالمضمون نفسه.”
وتستدرك: “لكن تبقى أكبر التحديات هي في كيفية تحقيق المعادلة الصعبة بين تقديم برامج نخبوية جادة والوصول إلى المتلقي العادي غير النخبوي. ولهذا علينا التفكير دوما في إيجاد طريقة تُقنع المشاهد بأن الثقافة ليست مادة جافة وإنما قد تكون جاذبة ومسلية أيضا.”
وتواصل: “لعلّ فكرة العدّ التنازلي أوجدت اهتماما خاصا عند كثيرين ممن باتوا يتابعون الحلقات لاكتشاف العنوان أو الشخص الذي حلّ في المرتبة الأولى. وهذا ما نجده في التعليقات على الحلقة، وغالبا ما يكون هناك اختلاف في آراء المعلقين.”
الذاكرة الثقافية
أكبر التحديات هي تحقيق المعادلة الصعبة بين تقديم برامج نخبوية جادة والوصول إلى المتلقي العادي غير النخبوي
تسأل “العرب” مايا الحاج: هل تنجح خطوة تسليط الأضواء على أعلام الفكر والأدب في حماية الذاكرة الثقافية؟ فتجيبنا: “الذاكرة الثقافية تحتاج إلى من يحرسها ويحييها ويُضيء عليها. وهذا يمكن تحقيقه عبر وسائل عدة منها طبعاً استذكار الشخصيات أو المنجزات التي تركت بصمتها في ثقافتنا العربية القديمة أو المعاصرة. وأعتقد أنّ دورنا اليوم أكبر من أي يوم مضى لأن ثقافتنا العربية تواجه تهديدا حقيقيا أمام سيل الثقافات المستوردة.”
وتضيف: “كلّ واحد منا يتحمل جزءا من هذه المسؤولية. من لا يشتغل في الإعلام ولا في الصحافة هو أيضا مسؤول من موقعه كأب أو كأم أو كتربوي أو ما إلى ذلك. هذه الذاكرة الثقافية هي إرثنا وهويتنا، وبالتالي هي ماضينا ومستقبلنا. برنامج عشرون هو واحد من برامج قليلة تسعى الى مد جسور ثقافية تصل الراهن بالماضي وتعيد تعريف الشباب بعمالقة صنعوا تاريخنا العربيّ ومازالوا يُلهمون الأجيال الجديدة.”
وبسؤالها حول قدرة برنامج تلفزيوني على منافسة المحتوى الرقمي في ظل هيمنة المنصات، فإنها تعلّق بأن المحتوى الرقمي فتح الباب أمام الجميع، وصار لكلّ شخص منصته الخاصة، ولهذا تراه أقرب إلى العشوائيات التي يدخلها كلّ من هبّ ودبّ ليختلط الحابل بالنابل وينجرّ الجميع وراء السرعة والترند.
تتابع: “أما البرنامج التلفزيوني الجاد فلا بدّ أن يسعى أولا إلى العمق والتوثيق والمصداقية، ولكن من دون إغفال نمط الحياة الراهنة. وأعتقد أنّ هذا هو هدف برنامج عشرون الذي وصفه كثيرون ممن كتبوا عنه بأنه مادة ثقافية توثيقية تجمع بين الأصالة والمعاصرة.”
تختم “العرب” حوارها مع مايا الحاج لماذا لا توجد سوى رواية “بوركيني” في رصيدها الإبداعي؟ ومتى يتم فك عقدة الرواية الأولى؟ تقول “إن ‘بوركيني‘ كانت تجربة جميلة أعتز بها، وأنا أحب طبعا أن أستكمل تجربتي الإبداعية بعملٍ ثانٍ يشكل خطوة إضافية في مسيرتي. ولكن أنا في الأساس صحافية قبل أن أكون روائية. وكما تعرف، فالعمل الصحافي اليومي مثل ماكينة ضخمة تطحن أيامنا ووقتنا وطاقتنا.”
وتتابع: “أنا أكتب دائما ولكن من دون أن أحظى بفرصة التفرغ للكتابة الإبداعية. أكتب أحيانا ليس بهدف النشر أو مراكمة الأعمال وإنما لأنني أحب الكتابة. ولا أشغل بالي بأي شيء آخر. حين يصبح مشروعي جاهزاً بالشكل الذي يرضيني سأنشره من دون تردد.”