كوليت.. أيقونة الأدب والحرية في معرض بالمكتبة الوطنية الفرنسية

أول امرأة في أكاديمية الغونكور حولت ألمها إلى طريق لأجيال من الكاتبات.
السبت 2025/10/25
رمز عالمي للمرأة الكاتبة الحرة

لم يكن واقع المرأة في عالم الفن والأدب على ما هو عليه من تحرر اليوم، إلى حدود عقود خلت كان هناك حجب ذكوري متعمد لمواهب النساء، لم يتراجع إلا أمام نضالات كاتبات ومبدعات وهبن حياتهن لتحرير النساء، وقدمن للأدب والفن والفكر الإنساني الكثير. ومن هؤلاء الكاتبة الفرنسية سيدوني غابرييل كوليت التي يحتفي بها معرض جديد في باريس.

باريس - بمناسبة مرور مئةٍ وخمسين عامًا على ولادة الكاتبة الفرنسية سيدوني غابرييل كوليت (1873 – 1954)، تنظم المكتبة الوطنية الفرنسية معرضا ضخما بعنوان “عوالم كوليت” للاحتفاء بهذه الكاتبة والمبدعة، التي شكّلت ظاهرة أدبية وإنسانية استثنائية في تاريخ الأدب الفرنسي الحديث بصفة خاصة والأدب الأوروبي والعالمي بصفة عامة.

يستمر هذا المعرض، الذي افتتح في الثالث والعشرين من سبتمبر 2025، إلى الثامن عشر من يناير 2026، ليقدّم رحلة شاملة عبر حياة كوليت الغنية، وأعمالها التي جسّدت بجرأة تحولات المرأة والمجتمع في النصف الأول من القرن العشرين.

سيرة مليئة بالتحديات

كوليت كاتبة تخطّت حدود زمانها وبلادها، لم تكن مجرّد روائية لامعة؛ بل كانت امرأة متعدّدة الوجوه فنيا وفكريا
كوليت كاتبة تخطّت حدود زمانها وبلادها، لم تكن مجرّد روائية لامعة؛ بل كانت امرأة متعدّدة الوجوه فنيا وفكريا

كوليت كاتبة تخطّت حدود زمانها وبلادها، لم تكن مجرّد روائية لامعة؛ بل كانت امرأة متعدّدة الوجوه: روائية، ممثلة مسرحية، صحافية، وناشطة نسوية. أثارت كتاباتها منذ بداياتها جدلًا واسعًا في الأوساط الأدبية، لأنها خرجت عن الصور النمطية المفروضة على المرأة في مجتمعها، ودافعت عن حرية الجسد والفكر، في وقتٍ كانت فيه تلك المفاهيم تُعدّ محرّمة.

بين من اعتبرها “امرأة متحرّرة أكثر من اللازم”، ومن رأى فيها “رمزًا للشجاعة الفكرية”، استطاعت كوليت أن تفرض حضورها الأدبي بثقة، وتفتح الطريق أمام أجيال من الكاتبات اللاتي وجدن في تجربتها مرجعًا في التحرّر والجرأة الإبداعية، من بينهن سيمون دي بوفوار ومارغريت دوراس وفرانسواز ساغان، وكثيرات غيرهن.

وُلدت كوليت في مدينة سانت سيفور أون فرانس بإقليم بورغونيا الفرنسي، وتزوجت في الخامسة والعشرين من عمرها من الكاتب والصحافي المعروف باسم ويلي، الذي كان يكبرها بضعف عمرها. وقد استغلّ موهبتها في الكتابة، فأجبرها على نشر أعمالها باسمه واسمها، مستفيدًا من نجاحها الأدبي، بينما عانت هي من إهماله وخيانته.

بعد سنوات من المعاناة، تطلقت منه لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها أكثر وعيًا بذاتها واستقلالًا في رؤيتها. تزوجت ثانية، وأنجبت طفلة، لكن التجربة لم تدم مرة أخرى، فتركت زوجها الثاني لتخوض حياتها من جديد، حتى التقت الرجل الثالث الذي وجدت فيه الاستقرار الذي حلمت به طويلا.

رغم هذه العواصف العاطفية لم تتوقف كوليت عن الكتابة، بل كانت تحوّل الألم إلى أدب، والمعاناة إلى جمال. بدأت في كتابة رواياتها الأولى في مطلع القرن العشرين، مثل “كلودين في بيتها” (1902)، و”كلودين ترحل” (1903)،و “ومين” (1904)، التي لاقت نجاحًا هائلًا وجعلت اسمها يلمع في سماء الأدب الفرنسي. ومنذ عام 1921 بدأت بتوقيع كتبها باسمها وحده، بعد أن تحررت نهائيًا من وصاية زوجها الأول، لتصبح من أول النساء الكاتبات المستقلات في فرنسا.

عرفت كوليت بأسلوبها الذي يمزج بين الخيال والسيرة الذاتية، إذ كانت تكتب عن شخصيات تشبهها، وتغوص في تفاصيل الطبيعة والحياة اليومية، مستلهمة من واقعها الخاص. وهذا ما نلمسه في روايتها الشهيرة “ولادة النهار” (1928)، واستخدمت رسائل والدتها سيدو (وقعت العديد من الكتب باسم سيدو تخليدا لاسم والدتها) مادةً أولية لتأملات فلسفية عميقة حول الزمن والحب والهوية. وقد مثّل هذا العمل دلالة فارقة في مسيرتها، حيث أعادت من خلاله تقديم علاقتها بالعالم وبالذات، بعد تجاوزها الخمسين من عمرها.

الأنوثة والحرية والإبداع

pp

يضم المعرض أكثر من ثلاثمئة عمل بين مخطوطات أصلية ورسائل ومقالات وصور فوتوغرافية ولوحات فنية ومقتنيات شخصية، إلى جانب عروض سمعية – بصرية ثرية تشمل مقاطع من أفلام مقتبسة من أعمالها، ومقابلات نادرة معها.

وينتظم المعرض في خمسة محاور موضوعية، تمزج بين مسيرة كوليت الأدبية وحياتها الشخصية، وتتناول موضوعات مثل: الأنوثة، الهوية، التحرر، الرغبة، الطبيعة، والذات الكاتبة.

 ومن أبرز المعروضات نجد المخطوطات الأولى لرواياتها الشهيرة، التي تكشف عن بداياتها وأسلوبها الخاص في كتابة الأدب، فضلًا عن نماذج من أعمالها الصحفية التي تظهر انشغالها بالتحولات الاجتماعية والفكرية لعصرها. ورغم إعلانها المتكرر أنها “كاتبة لا سياسية”، إلا أن كتاباتها كانت مرآة دقيقة تظهر تقلبات المجتمع الفرنسي بين الحربين العالميتين.

الكاتبة عرفت بأسلوبها الذي يمزج بين الخيال والسيرة الذاتية، كانت تكتب عن شخصيات تشبهها، وتغوص في التفاصيل

كان اهتمام كوليت بذاتها وبالعالم من حولها نابعًا من وصية والدتها التي قالت لها يومًا: “انظري”، وهي الكلمة التي جعلتها عنوانًا لأحد كتبها المصوّرة بريشة الفنان ماتوران ميهو (1882 – 1958) حيث ارتسمت في كتاباتها قدرة نادرة على الملاحظة والاهتمام، بل والتقاط التفاصيل الصغيرة، سواء في حياة الإنسان أو الحيوان أو الطبيعة، ما جعلها تنسج عالمًا أدبيًا حيًّا متدفّقًا بالحياة.

ويشارك في معرض “عوالم كوليت” عدد من الفنانين الذين جسّدوا عالم كوليت البصري، من بينهم أندريه دونواييه دو سغونزاك (1884 – 1974) وراوول ديفي (1877 – 1973) وإيميلي شارمي (1878 – 1974) والفنانة لويز هيرفيو (1878 – 1954)، إلى جانب لوحات للفنانين ماري لورنسين (1883 – 1956) وكيس فان دونغن (1878 – 1968) اللذين صوّرا حضورها المسرحي الملفت. ويقدم المعرض أيضًا مقتطفات من مسرحيتها “الوجه الآخر للمسرح الموسيقي” (1913)، التي كشفت فيها عن كواليس الحياة الفنية والإنسانية التي عايشتها.

تُعدّ المبدعة كوليت من بين أبرز رموز الأدب الفرنسي النسوي، وأول امرأة تدخل أكاديمية الغونكور عام 1945. وكانت من بين أول النساء اللاتي دخلن الأكاديمية الفرنسية رغم وقوف المسؤولين فيها ضد وجود المرأة، وفي رحيلها نظمت لها الحكومة الفرنسية جنازة مهيبة.

وتجدر الإشارة إلى أن أسلوبها الحرّ وجرأتها اللغوية والفكرية أكسباها تقدير القرّاء والنقاد على حدّ السواء، وجعلاها تمثّل نموذجًا فريدًا للاستقلال والتمرد الإيجابي في زمنها. إلى جانب ذلك تطرقت كوليت في كتاباتها إلى الحب والحرية والرغبة والحياة والخيانة بصدق وعمق نادرين، فاستحقت أن تبقى أعمالها حاضرة إلى اليوم، وأن يتحوّل اسمها إلى رمز عالمي للمرأة الكاتبة الحرة.

8