فنانون عمانيون: التشكيل انفتاح الذات على الآخر لتخفيف قسوة الواقع

المتلقي شريك في العمل الفني، يقرأه ويمنحه سردية خاصة.
الثلاثاء 2025/09/02
لحظة تعاد فيها قراءة اللوحة

ما الذي يميز فنانا تشكيليا عن الآخر؟ وكيف انتقل التشكيل من تجسيد بصري إلى سرد لوني عميق ينقل ملامح ذات الفنان إلى الآخر ويترك له حرية التأويل والفهم والتفاعل؟ ذلك ما تجيب عنه مجموعة من الفنانين العمانيين الذين يرون في الفن التشكيلي لغة كونية تعبّر عن ماهية الذات والمشاعر الإنسانية، لكنها تحرر الفرد والمجموعة من قسوة الواقع المشترك.

مسقط- يمثل الفن لغة بصرية في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتكثر فيه المُشتّتات، يبحث فيه الإنسان عن ذاته ويعمل جاهدًا للتعبير عن نفسه والإفصاح عن مشاعره وخلجاته. فمن خلال الأشكال والألوان والخطوط، يفتح الفنان نافذةً على أعماقه، ويكشف عن دواخله.

والفن التشكيلي ليس مجرد ممارسة جمالية وكمالية، بل هو فعل وجودي ينطلق من أعمق طبقات الوعي واللاوعي، ليصبح مرآة تكشف جوهر الكائن الإنساني في صراعه الأزلي مع المعنى. كما يتحوّل الفنان التشكيلي إلى كائن وسيط بين عالمين؛ عالم محسوس وآخر متخف. هنا، تتحول اللوحة إلى مساحة روحية، يسكب عليها الفنان أحماله النفسية وتوهجه الفكري، فيحوّل التجربة الذاتية إلى خطاب بصري قادر على لمس الآخر في صميمه.

عمومية الرسالة

خالد بن يعقوب السبهاني: الفنان الذكي يفتح المجال للمتلقي لتأويل العمل الفني

في هذا السياق، يقول الفنان التشكيلي خالد بن يعقوب السبهاني “كان بابلو بيكاسو يرى الفن التشكيلي كأداة تحرر وتعبير غير محدود عن المشاعر والأحاسيس، بل يتجاوز الواقع ليُوجد رؤية جديدة للعالم، حينما قال مقولته الشهيرة: الفن يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية، أما فنسنت فان غوخ فكانت نظرته للفن ذات جانب عاطفي وروحي، فقد عبّر عن الألم والأمل والطبيعة من خلال تقنية ضربات الفرشاة والألوان، حيث كان يقول: أنا أحلم بالرسم، ثم أرسم حلمي”.

وأوضح السبهاني أن المهارة التقنية وحدها ليست كافية لنقل مشاعر الفنان في اللوحة الفنية، هي أداة ضرورية لكنها ليست العامل الوحيد لنجاح العمل الفني. فالمهارة تمكّن الفنان وتساعده على التحكم بالألوان وعلاقاتها، والبناء التكويني، وإبراز الظل والنور، ومهارات المنظور. وكل هذا يمكّنه من نقل المشاعر والأحاسيس بصورة أعمق وأدق وصولا إلى الرؤية الداخلية، والصدق الشعوري، والرسالة الفكرية للعمل.

وذكر مثالا على ذلك لوحة “آكلو البطاطا” الشهيرة لفان غوخ، التي تُظهر عائلة فقيرة تتناول الطعام في جو واقعي وكئيب، معبّرة عن الكفاح والتواضع. فقد ساعدته مهاراته التقنية في إبراز هذا المشهد بتعبيراته في بناء تكويني دائري، من خلال التحكم الكبير بعنصر الظل والنور وقتامة الألوان، وتمكنه من إظهار ملامح الفقر والضعف وشحوب الوجوه وبساطة المكان والمعاناة الواضحة في تصوير أفراد العائلة.

وفي المقابل قد نجد فنانا يرسم وجها بدقة واقعية، لكنه لا ينجح في تحريك مشاعر المتلقي نحو أحاسيس وتعبيرات هذا الوجه. هذا يبيّن أن المهارة التقنية والقيمة الشعورية إذا ما اجتمعتا في العمل الفني جعلتا الفنان قادرا على نقل مشاعره وأحاسيسه للمتلقي، مما يضفي على العمل صدقه وأثره.

وبيّن السبهاني أهمية مراعاة الفنان لتأويلات المتلقي: “فالفنان الذكي يضع في اعتباره أن لوحته قد يشاهدها الكثيرون، كما أن كل متلقٍّ قد يرى هذه اللوحة أو العمل الفني من زاوية مختلفة، كلٌّ حسب خلفيته الثقافية والنفسية. ولذلك يسعى الكثير من الفنانين إلى فتح المجال أمام المتلقي للتأويل، بل إنهم يتعمدون ترك مساحات رمزية غامضة تشد المتلقي إلى تفسير العمل بحرية. وقد ظهر ذلك جليًّا في فنون ما بعد الحداثة والفنون المعاصرة، إذ أصبح المتلقي مشاركًا في العمل الفني وأحيانا جزءًا منه. وهنا يدرك الفنانون أهمية تحقيق التوازن بين خصوصية التعبير وعمومية الرسالة”.

هاجر الحراصية: بالفن نفهم الذات دون انهيار تحت ثقل الواقع

من جانبها، ترى الفنانة ندى الرويشدية أن “الفن التشكيلي أصدق وسيلة تمكن الإنسان من التعبير عن ذاته وعن المشاعر البشرية بشكل عام، وما يحيطها من واقع وتحديات سواء فردية أو جماعية، وأن الوسائط البصرية والفنية تكشف عن أبعاد عميقة من المشاعر والأحاسيس قد لا تحققها اللغة أو الكلمة، كونها تفتح مساحة واسعة للتفاعل المباشر معها؛ فيجعل المتلقي يؤولها ويحاول فكّ رموزها، وهو ما يجعلها تجربة ذات بُعد مختلف قادرة على سبر أغوار المتلقي وفتح آفاق واسعة من التفكير والفهم في المشاعر والذات البشرية، فالخطوط والألوان والنقوش والعناصر والرموز المستخدمة في الأعمال الفنية تعزز من إمكانية عيش تجربة فريدة، يمكن من خلالها للمتلقي الولوج إلى عوالم من التجارب الذاتية المعقدة الكامنة خلف كل تجاربه السابقة”.

ورأت الرويشدية أن “الفن البصري قادر على تجاوز الكلمات والمشاعر بأسلوب أكثر عمقًا، يلامس ذات الفنان والمتلقي معًا. فالطاقة البصرية التي يمثلها الفن تتفاعل بشكل عميق مع الذات البشرية؛ مما يخلق تجربة نفسية تتجاوز قدرة الإنسان على الفهم. ويتجلى ذلك بالشعور الذي يخلقه العمل الفني للفنان أو المتلقي على حد سواء. فالفنان بشكل عام يحاول ترجمة ما يدور بداخله وذاته ويحوّله بصريًا إلى عمل فني يمكن للمتلقي التفاعل معه”.

وتابعت “من خلال عملية الإبداع المستمرة للأعمال البصرية، يحاول الفنان جاهدًا التصالح مع نفسه وقراءة ذاته والغوص فيها، دون أن يتدخل في ذات الآخرين. وإنما يحاول أن يوصل للعالم ذاته وإحساسه العميق وتجاربه الشخصية، وذلك هو غاية الفن الأسمى، فالفنان رسول مشاعره وأحاسيسه وتجاربه الفكرية والروحية.. ونجد الفنان في محاولة مستمرة لقراءة ذاته والآخرين، وذلك مطلب مُلح، إذ لا يمكن للفنان أن يعيش في عالمه الخاص فقط، بل عليه أيضا أن يندمج مع وسطه فيتفاعل معه، ويسهم في نقل تفاصيله ليجعل المتلقي يتفاعل معها سلبًا أو إيجابًا”.

وخلصت الرويشدية إلى أن “لغة الفن هي لغة عالمية، يمكن أن تتعدى الحدود والثقافات والشعوب. لذلك نجد أن أغلب الشعوب منذ القدم تتفاعل مع هذه المعطيات البصرية وتفهمها. وعليه صُنّف الفن البصري أداة فاعلة للتعبير والتنوير، ومصدرا دائما لتعميق الوعي الإنساني، ووعاءً عميقا لعكس ما يختلج في النفوس، وميدانًا رحبًا للتفاعل بين الداخل والخارج”.

متحف زمني

◄ الفن البصري أداة فاعلة للتعبير والتنوير
الفن البصري أداة فاعلة للتعبير والتنوير

بيّن الفنان التشكيلي مبارك السليمي كيفية ترجمة الفنان لصراعاته الداخلية إلى خطوط وألوان يفهمها الآخر، ليعكس مشاعره وأفكاره بشكل بصري مختلف عن الشعر أو الكتابة، إذ تُعد الرموز المرسومة باللوحة دلالات وجدانية يعبّر من خلالها الفنان عن مشاعره وما يعتريه من أحاسيس، وقد تكون بعض اللوحات مجرد نقلٍ لمنظر أشعره بالارتياح، أو أعاد له ذكريات بعض المواقف واللحظات، أو استوقفته مشاهد أعادته من إطاره الزمني الحالي إلى الماضي.

ورأى السليمي أن “استمرار الفنان في إنتاجه الفني يجعل أعماله تتجمع لتشكّل مواقفه الحياتية وتجربته وممارسته، وبالتالي تكون بمثابة توثيق بصري للأحداث والمشاعر التي عاشها”، وتابع أن “للفن أثرا على المتلقي كتواصل بصري غير مباشر. فمثلا عند مشاهدة لوحة للبحر، قد يستقبل المتلقي ارتباطات معنوية غير محسوسة، لكنها تظهر في تعبيره؛ فمن ارتبط البحر لديه بالرزق يشعر بالانشراح، بينما من أصابه البحر بالفقد يشعر بالحزن، ومن رحل عنه عزيز يشعر بالاشتياق. وهذا يوضح أثر اللوحة على المتلقي”.

وأوضح أن كل عمل ينتجه الفنان هو بمثابة نقلة زمنية لمستواه الفني، فعند إنتاج أي لوحة تكون بمثابة توثيق لسيرته الفنية وسرد قصصي له. وفي الجانب الآخر هي تسرد التطور الفني والنوعي للفنان والمدارس التي يتنقل بينها عند إنتاج أعمال جديدة، وهو ما يسميه السليمي بـ”المتحف الزمني للفنان”.

◄ اللوحة مساحة روحية يسكب عليها الفنان أحماله النفسية وتوهجه الفكري، فيحول التجربة الذاتية إلى خطاب يلمس الآخر

وفي السياق ذاته، تجد الفنانة هاجر الحراصية في الفن “مساحة أوسع مما يمكن لحديث عابر أن يوفره. فعندما يصبح الفعل الإبداعي وسيلة لتفريغ الصراعات الداخلية وإسقاطها في عالم مغاير، يغدو الفن ملاذًا آمنًا للتعبير عمّا نحمله في أعماقنا من مشاعر وأفكار غير مدركة. وما إن يتجلّى هذا المحتوى الداخلي في صورة بصرية، حتى يبدأ في الكشف عن ذاته، ويمنحنا فرصة أكثر عمقًا لفهمه والاقتراب منه. يحيلني هذا دومًا إلى ذلك الشعور الذي ينتابني في كل مرة أنهي فيها عملا فنيا، إذ أشعر بأنني عبّرت عن شيء كان عالقًا في مكانٍ ما بين الوعي واللاوعي. والغريب أنني لا أعود أتذكر الموقف الذي ألهمني، بل أتذكر فقط جمالية العمل نفسه، كأنني انتزعت الألم وتركته يتخذ شكلا آخر، أقلّ حدّة، وربما أكثر فهما”.

وأشارت إلى قول نيتشه “إننا نمتلك الفن حتى لا نُقتل بالحقيقة”، فالفن أيضا وسيلة لتلطيف قسوة الواقع، وللتعامل مع الحقيقة التي قد تكون ثقيلة على النفس. ومن هنا، يصبح الفن ملاذًا لفهم الذات دون الانهيار تحت ثقل الواقع. وهذا الدور لا يقتصر على الفنان فحسب، بل يشمل المتلقي أيضا، فالتجربة لا تقل عمقا بالنسبة له. ففي لحظة تأمل، قد يعثر المتلقي على إحساس مألوف، أو صورة تشبهه، أو حتى فكرة لم يكن يمتلك مفاتيح التعبير عنها. فالفن لا يفرض تفسيرا واحدا، بل يدعو كل من يقترب منه إلى أن يرى ذاته بطريقة مختلفة.

ورأت الحراصية أن العملية الإبداعية في جوهرها لا تتحقق إلا بوجود العناصر البصرية، فهي ليست مجرد تكوينات وتركيبات، بل رموز تفكير وتعبير تُبنى من خلالها الرؤية، مجسِّدة مواقف وتجارب تختزل في طياتها عمقا يفوق الظاهر. فالفن ليس انعكاسا للواقع فحسب، بل إعادة تشكيل له بوسائط يتجاوز أثرها الإدراك المباشر، لتكشف لنا عن ذواتنا كما لم نرها من قبل.

◄ اللوحة حكاية ذات الرسام ومجتمعه
اللوحة حكاية ذات الرسام ومجتمعه

 

14