عذابات اليمنيين تصنع روايات جديدة أكثر التصاقا بالواقع
فارس الحميري
صنعاء - خلال سنوات الحرب الأخيرة شهدت الرواية اليمنية تحولات كبيرة ولافتة، إذ انتقلت من السرد الفني الجمالي، الذي كان يغوص بحثا عن التفاصيل العميقة في المجتمع بأسلوب أدبي راق، إلى ثيمات الواقع المرير التي تجسد أوجاع الحرب وتفكك الهوية وتداعيات العنف اليومي.
وغدت العذابات التي واجهها الروائي اليمني في الآونة الأخيرة نصا توثيقيا وإنسانيا يجمع بين الفن الأدبي والذاكرة الممزقة، حيث عكست معظم الإبداعات الأدبية جوهر التعقيدات التي يعيشها اليمنيون مُجبرين.
توثيق ووصف
في زمن الحرب لم تفقد الرواية اليمنية، التي جعلت من أوجاع الناس وحياتهم اليومية كلمة نابضة، وتشظيات الواقع جمالا يروى بالأدب، حضورها بل ظلت تتوهج في المشهد الثقافي وتعتلي منصات التكريم.
وأعلنت المؤسسة العامة للحي الثقافي في قطر (كتارا) الخميس الماضي فوز الروائي اليمني حميد الرقيمي بجائزة “كتارا” للرواية العربية في دورتها الحادية عشرة عن روايته “عمى الذاكرة” في فئة الروايات المنشورة.
◄ ملامح الرواية اليمنية تغيرت من سرد فني جمالي إلى ثيمات الحرب والمنفى والهوية والفقد والاغتراب والبحث عن الأمل
يقول الرقيمي في تصريح خاص لنا “حاولت في روايتي ‘عمى الذاكرة’ ألا أروي الحرب كحدث له أبعاده السياسية والأيديولوجية فقط، ركزت عليها كحالة داخلية تسكن الإنسان وتكسره من الداخل، التشظي في الزمن، وتقطّع السرد، وتكرار الذاكرة الممزقة، كلها ليست أدوات فنية فقط، بل هي انعكاس لواقع ممزق يعيش فيه اليمني، وهو يحاول النجاة بإنسانيته.”
وتبرز في أسلوب الروائي اليمني الرقيمي الواقعية بكل تفاصيلها، إذ يقول في روايته مخاطبا القارئ بشكل مباشر “قبل أن تأخذك هذه الصفحات المنقطة بالسواد، تذكر أن من يكتب سيرته هنا إنسان مثلك، كان إنسانا طبيعيا مثلك، لا أعلم بأي زمن تقرأني، ولا على أي أرض تراقب هذا السير المتعب، لكنني على علم بأننا نتشابه كثيرا، حتى وإن كان للحرب رأي آخر.”
ويتابع الرقيمي، الذي صدرت له روايات أخرى منها “حنين مبعثر” و”الظل المنسي”، أنه خلال سنوات الحرب العشر الماضية كان هناك تغير في سياق وملامح الرواية اليمنية من سرد فني جمالي إلى “ثيمات الحرب، المنفى، الهوية، الفقد، الاغتراب، البحث عن الأمل، بوصفها مكوّنات جوهرية في السرد، تحل محل الثيمات الاجتماعية أو الرومانسية السابقة.”
ويوضح الروائي اليمني أن “الحرب لم تعد موضوعا في الرواية اليمنية فحسب، بل أصبحت شكلا من أشكال البناء الفني.” ولذلك باتت الرواية اليمنية الحالية تعبر عن تفاصيل المرحلة، وأصبحت غالبية الإنتاج الأدبي بمثابة عملية توثيق ووصف لما يحدث لليمنيين، وفق الروائية اليمنية فكرية شحرة.
تقول شحرة في حديثها معنا “إن أبرز ملامح الرواية اليمنية الحالية هو توثيق المرحلة الصعبة بكل تفاصيلها، حيث ألقت الحرب ظلالا قاتمة على كل ما نكتب كرواة واقعيين أو حالمين.” وتتابع أنه “من الصعب أن ينفصل الكاتب عن واقعه وبيئته، لذا فأغلب الإنتاج الأدبي مؤخرا هو عملية توثيق ووصف لما يحدث لنا كيمنيين في الداخل أو في الشتات.”
أدب الحرب

توضح شحرة، وهي أديبة وكاتبة يمنية بارزة صدرت لها عدة روايات، أن “أدب الحرب يعد نوعا معترفا به منذ وقت طويل من خلال تصنيف فن الرواية.. إلا أنه في الحالة اليمنية أصبح أسلوبا وتوجها لجيل كامل من الأدباء يعاصرون الحروب المتوالية التي ما فتئت تنفجر هنا وهناك ضمن خارطة اليمن.”
وتضيف “فلا غرابة أن يصبح أدب الحرب سائدا وشكلا له ذات الملامح المتقاربة في فن الرواية اليمنية،” مؤكدة أن “الحرب لم تعد موضوعا يروى بل أسلوبا للكتابة نفسها.”
وتسلط الروائية اليمنية فكرية شحرة الضوء في أعمالها على قضايا إنسانية واقعية متعددة، حيث يجمع أسلوبها الأدبي بين العمق الإنساني والبعد الفلسفي، مع وعي مشترك وتعاطف صادق تجاه الآخرين. ففي روايتها “نصف الروح” تقول “ما قيمة الحياة إن لم نحس بمعاناة الآخرين.”
بدوره يقول الكاتب اليمني صقر الصنيدي “تُمْكن رؤية الحرب في اليمن بوضوح من خلال الأعمال الروائية، التي تحولت في معظمها إلى أداة تصوير للواقع، وهذا أبعدها كثيرا عن الشكل الفني لتصبح جزءا من التوثيق، وهو ما قد يتعارض مع المألوف في فن الرواية.”
◄العذابات التي واجهها الروائي اليمني في الآونة الأخيرة صارت نصوصا توثيقية وإنسانية تجمع بين الفن الأدبي والذاكرة
ففي السابق ناقشت الأعمال الروائية اليمنية الظواهر العميقة في المجتمع، وتمكن رؤية ذلك في أعمال عديدة فتحت الأبواب للنقاش حول الفوارق الطبقية والصراعات الداخلية في إطار المجتمع وحتى الأسرة، وفق الصنيدي.
لكن في الأعمال الحديثة خلال آخر عشر سنوات، بحسب الصنيدي، انعكست الحرب بصورة واضحة، “وهو أمر يصعب تجاوزه أو تجاهله لأنه واقع يعيشه الكاتب ويفكر وفقا له.”
ويتابع “الحرب امتدت إلى جميع الأعمال الروائية اليمنية تقريبا، حتى وإن كان كتابها خارج جغرافيا المعركة إلا أنهم غير قادرين على تجاهل ما يحدث في الداخل.”
ويشير الصنيدي، الذي صدرت له مؤخرا رواية “رحلة رأفت”، إلى أن ما يميز الرواية اليمنية أنها بادرت إلى توثيق المرحلة الحاضرة ولم تنتظر كثيرا حتى يضع المتحاربون أسلحتهم وتتضح الكثير من الملامح كما حدث سابقا في الحالات الروائية المشابهة.
وتوثق رواية “رحلة رأفت” حالة التشرد التي أنتجها الصراع، وهي ليست عملا فنيا فقد نقلت رحلة شخصياتها بصورة قريبة من الواقع، وفق الصنيدي.
وتحكي رواية “رحلة رأفت: كل وعود الطريق كاذبة” بأسلوب أدبي مشوق، وإيقاع مترابط شفاف، رحلة شاب يُدعى رأفت، أجبرته الحرب على مغادرة اليمن والذهاب في رحلة لجوء شاقة وخطيرة عبر عدة دول وصولا إلى أوروبا.
يقول الصنيدي “أراد رأفت أن يكسر العوائق، وأن يصنع طريقه الخاصة عبر قدميه وخارطة في يده قاصدا الوصول إلى حيث يجد نقطة النهاية، لكنه يجد أن كل محطة وصل إليها هي أول الطريق.”
ويشير الكاتب والروائي اليمني إلى أن “الحرب حاضرة في واقع ومخيلة الكاتب اليمني ولا يمكنه الابتعاد عنها من خلال الكتابة، بل ربما تصبح أقرب كلما فكر في الكتابة، فهي المحرك الأساسي لكل النتائج وتصْعب مناقشة النتائج دون ذكر الأسباب، والحرب هي كل الأسباب.”
