سمير صبيح شاعر الوطن والناس والأحياء الشعبية
بغداد - تمرّ هذه الأيام الذكرى الرابعة لرحيل الشاعر العراقي الكبير سمير صبيح، الشاعر الذي لم يكن مجرد صاحب قصيدة، بل صاحب موقف وصوت وضمير، حيث كان واحدًا من أبرز الأصوات الشعرية في العراق المعاصر، وخصوصًا في مجال الشعر الشعبي الذي يجمع بين الأصالة والوجدان الشعبي العميق.
بدأ مسيرته الشعرية مبكرًا، ليصبح لاحقًا أحد أهم الشعراء الذين عبّروا بصدق عن معاناة الإنسان العراقي وآلامه وأحلامه. امتاز شعره بالبساطة الممزوجة بالعمق، وباللغة القريبة من الناس التي تلامس القلب مباشرة، إذ استطاع من خلالها أن يوصل أحاسيسه الوطنية والإنسانية بأسلوب مؤثر وصادق.
تميّز سمير صبيح كذلك بقدرته على توظيف المفردة الشعبية لخدمة قضايا كبيرة، مثل الوطن، والفقر، والحب.
في أكتوبر من عام 2021، غاب جسدا إثر حادث سير مؤلم على طريق الكوت، لكن الحروف التي كتبها ظلت تتردّد في الشارع العراقي، في المقاهي، في الإذاعات، وعلى ألسنة الناس، وظل صداها في كل بيت، فكل قلبٍ عرف الوجع يجد في كلماته عزاءً وسلوى.
لم يكن الشاعر الراحل شاعر نخبة، بل شاعر الناس والأحياء الشعبية والفقراء والأمهات، كان يرى في الشعر وسيلة للبوح لا للزخرفة، وكان يؤمن أن القصيدة إذا لم تخرج من القلب فلن تصل إليه.
كتب عن الحب كأنه صلاة، وعن الوطن كأنه بيت يحاول أن يعمّره بالكلمات، وعن الأم كأنها نهر يجري في صدره، لم يكن يبحث عن شهرة ولا مجد، بل عن أثر وقد ترك أثراً لا يُمحى.
وُلد سمير صبيح ضاحي القريشي في بغداد سنة 1970، في بيتٍ بسيط يفيض حبّاً وعشقاً للشعر والموسيقى، بدأ كتابة الشعر في أواخر الثمانينيات، وكانت قصيدته الأولى ومضةً مختلفة في زمنٍ يفيض بالألم.
مع بدايات التسعينيات، صار اسمه يلمع في المهرجانات الشعرية؛ بفضل صوته الدافئ وأسلوبه الصادق الذي يخترق الجدار بين الشاعر والجمهور، كان إذا اعتلى المنصّة، يصمت الضجيج؛ لأن الناس تشعر أن من يتحدث أمامهم واحدٌ منهم، لا نجم بعيد.
كتب سمير عن الوطن لا كموضوعٍ سياسي، بل ككائنٍ حي يتألم ويتنفس، قال في إحدى قصائده: "الوطن مو خارطة، الوطن وجوه التعبانة، وصوت أمي من الفجر، وريحة خبز التنور".
شاعر كان صوتا حيّا لا يغيب وترك شعراً يعلّمنا أن القصيدة ليست للترف بل للحياة
بهذه اللغة البسيطة والعميقة رسم وجهاً جديداً للشعر الشعبي العراقي، الذي لم يعد مجرد إيقاعٍ وغزل، بل صار مساحةً للوجع الجمعي والضمير الوطني، كان يعاتب، ويصرخ، ويضحك، ويبكي في قصيدة واحدة… يكتبها وكأنه ينزفها.
لم يكتفِ سمير بالمنصّات الشعرية، بل انتقل إلى الإذاعة والتلفزيون ليقرّب الشعر من الناس أكثر.
قدّم برامج مثل "قوافي" و"السوالف" و"شعراء على الطريق"، وجعل من الشاشة منبراً للقصيدة العراقية الحديثة.
كان صادقاً حتى في تقديمه الإعلامي، يقدّم الشعراء الشباب ويفسح لهم مساحة الحلم، كما كتب الأغاني التي غنّاها كبار الفنانين العراقيين، فتحوّلت قصائده إلى أغانٍ تمشي على شفاه الناس وتدخل بيوتهم بلا استئذان.
وأهم ما يميّز شعر سمير صبيح هو الصدق، الكلمة التي كانت شعار حياته، كان يكتب باللهجة العراقية البغدادية أو الجنوبية دون تصنّع، ويستمد قوته من بساطته.
لم يكن يبحث عن استعارات ثقيلة أو قوافٍ معقّدة، بل كان يجعل من الجملة اليومية بيت شعر خالد، كان قريباً من مظفّر النواب في جرأته، ومن عريان السيد خلف في دفء مشاعره، لكنه ظلّ محتفظاً بصوته الخاص، وصورته الفريدة.
من عرف سمير الإنسان عن قرب، عرف أنه لم يكن مغروراً ولا متكبّراً، رغم شهرته الواسعة، كان بسيطاً يجلس مع الناس في المقاهي الشعبية، يسمع همومهم، ويضحك بصدق، ويقول: "الشعر مو مهنة، الشعر وجع".
كان إنساناً قبل أن يكون شاعراً، ولهذا حين رحل، بكت عليه القلوب قبل أن تبكيه العيون، رحيله ترك فراغاً لم يملأه أحد؛ لأن كل شاعر بعده صار يقيس كلماته بميزان سمير.
رحل سمير صبيح، لكن إرثه لم يرحله، قصائده تُقرأ اليوم في المهرجانات، وتُدرَّس في الجامعات، وتُحفظ في ذاكرة الناس، من الصعب أن تجد شاعراً استطاع أن يجمع بين العفوية والعمق، بين الوطنية والعاطفة، بين الحزن والابتسامة كما فعل هو، كان صوته يملأ الدنيا صدقاً، وما زال صداه يذكّرنا بأن الكلمة الصادقة لا تموت.
في الذكرى الرابعة لرحيله، لا نستذكر سمير صبيح كراحل غاب، بل كصوت حيّ لا يغيب، ترك شعراً يعلّمنا أن القصيدة ليست للترف، بل للحياة.