سليمة خضير تغلق شباك السنين

أكثر ما ربطني بسليمة خضير كان عثوري على روايتها نخيل وقيثارة… قرأتها بشغف وكأنني أعيش دراما بطلتها الممثلة لا الكاتبة.
الاثنين 2025/09/01
سليمة خضير على غلاف مجلة الإذاعة والتلفزيون عام 1975

من يعود إلى المشاهد القليلة التي أدتها سليمة خضير في فيلم “الحارس” مع الفنانة زينب، الذي أُنتج عام 1967، سيشعر بشيء من الراحلة “أم وسام”. فهذه الممثلة العراقية التي رفعت تلويحتها الأخيرة الأسبوع الماضي في وداع أبدي، لن تكتفي بأن تسكن الذاكرة، إنها من ذلك النوع الذي يترك أثرًا لا يغادر المشاعر.

أتذكر أمي التي لم أرها منذ أكثر من ثلاثة عقود، كانت تحب سليمة خضير، ربما لأنها عرفت وأنا طفل لم يتجاوز العاشرة، أنني أحببتها. كانت تسميها باسم أحد أدوارها “حجية كرجية”، حتى وإن ظهرت في دور آخر.

لكن أكثر ما ربطني بسليمة خضير كان عثوري على روايتها نخيل وقيثارة… قرأتها بشغف وكأنني أعيش دراما بطلتها الممثلة لا الكاتبة.

في كل ما كُتب بعد وفاتها لم يُشر إلى أن سليمة بدأت قاصة، وأصدرت مجموعتين قصصيتين، إضافة إلى رواية “نخيل وقيثارة” التي صدرت عام 1973، قبل أن تكمل دراستها للغة العربية في الجامعة المستنصرية ببغداد.

هناك قائمة طويلة من الأعمال الدرامية كانت سليمة خضير سيدتها، لكنها في سنواتها الأخيرة لم تحصد سوى الخذلان والخيبة، مثل أي فنانة عراقية، بينما كان ينبغي على الذاكرة والتاريخ أن يضعاها في مقام نخلة عراقية.

في نخيل وقيثارة نكتشف سليمة خضير الروائية
في نخيل وقيثارة نكتشف سليمة خضير الروائية

من يتذكر الآن تمثيلية “قيس وليلى في الريف”، التي حُوّلت بطريقة كوميدية ونُقلت أحداثها إلى بيئة الأهوار؟ سليمة كانت بدور ليلى، بينما حبيبها قيس جسّده الفنان سلمان الجوهر. ولنا أن نتخيل كيف كان قيس يتغزل بليلى بشعر شعبي عراقي! تلك كوميديا جعلت البيوت الريفية ترى نفسها على الشاشة صورةً طبق الأصل من حياتها.

لم أتوقف يومًا، وأنا على تواصل دائم مع شقيقتها المطربة أمل خضير، عن السؤال عنها متحسرًا. كانت أمل تجيبني بمرارة: إن “أم وسام” كمن تترقب موتها بعد رحيل ولدها في حادث مفجع.

قضت سنواتها الأخيرة في محافظة أربيل شمال العراق، وكأنها تهرب من بغداد التي خذلتها، أما البصرة فبدت أبعد من أن تُدرك. فالتجأت إلى كتابة مذكراتها، وهي أمانة تاريخية وأخلاقية ينبغي أن تنشر، فمن يتولى ذلك؟

ما زلت أتذكر لقائي الأخير بسليمة خضير، مصادفةً، في أروقة وزارة الثقافة والإعلام قبل خمسة وثلاثين عامًا. عندما رأتني، كانت كمن ينتظرني. شعرتُ بالفخر وهي تقول: “تعال كرومي، عندي كلام معك”. بالفعل، تحدثت بشغف عن حوار أجريته مع شقيقتها أمل خضير، نشر في جريدة الجمهورية، ركزت فيه على “ملامة” أننا نخسر أمل التي أحببناها في أغنية “من الشباك.”

قالت لي سليمة: “كل أسئلتك كانت تعبر عني في كل ما أحبه بغناء أمل.” كانت تستعيد تلك الأغنية، التي مضى عليها آنذاك أكثر من عشرين عامًا، وكأنها تعود لتسمعها كلما أوجعها الحنين.

أغنية “من الشباك” التي كتبها داود الغنّام، ولحنها الموسيقار الراحل محمد جواد أموري، واحدة من باقة أغانٍ توّج بها صوت أمل خضير. صنعت حكاية غنائية يجتمع حولها العشاق، حين تترقب الحبيبة من خلف الشباك عيون القادم إليها.

اليوم لم يعد بمقدور سليمة خضير أن تقف عند شباك السنين لتتأمل نصف قرن من المسرح والدراما العراقية التي مرّت بها، وبقيت في ذاكرة العراقيين جميعًا. لم يعد بوسعها أن تتأمل كيف خذلها الزمن والمؤسسات، ولم تجد في نهاية حياتها سوى منزل قطعت أوصاله تعيش فيه كهولتها مع زوجها، لاعب نادي الميناء بكرة القدم، حمزة قاسم.

وفي سنواتها الأخيرة، بقيت برعاية حفيدها، كأنها تعيد وجعًا عرفته فنانات عراقيات كثيرات، من سليمة مراد إلى مائدة نزهت، حتى نصل إلى ما عاشته آزادوهي صاموئيل وتعيشه سعدية الزيدي، وهما بعيدتان عن عراقهما!

18