سر قوة الدينار التونسي رغم تعقيدات الاقتصاد

الاقتصاد لا يُقاس بالأرقام فقط، بل بالواقع المعيش، وواقع تونس اليوم لا يبدو مستقرًا كما يوحي به سعر صرف الدينار.
السبت 2025/07/26
الدينار لا يعكس واقع الاقتصاد الحقيقي

رغم ما تمرّ به تونس من أزمة اقتصادية خانقة منذ أكثر من عقد، فإن عملتها لا تزال تثبت حضورها في سوق الصرف، بل وحققت مؤخرًا ارتفاعًا في قيمتها أمام الدولار واليورو، مثيرًة بذلك حيرة الكثيرين، بينما يبدو البعض منتشيا بهذا الصمود ويعبّر عن إعجابه عبر منشورات ومقاطع فيديو عبر الشبكات الاجتماعية دون إدراك لسر بقاء العملة قوية طيلة هذه السنوات.

لا يبدو من المنطقي أن تحقق عملة بلد يعاني من شحّ الموارد، وتراجع النمو، وتضخم، وارتفاع الفائدة، هذا الأداء الإيجابي. حتى صندوق النقد الدولي يبدى منذ سنوات تفاجأه من قوة الدينار أمام سلة العملات العالمية الرئيسية. فهل هو استقرار حقيقي أم مجرّد استقرار وهمي يخفي خلفه اختلالات أعمق؟

لفهم هذا اللغز النقدي، لا بد أولًا من التوقف عند الأسباب التقنية التي قد تفسّر هذا الصعود. المؤكد أن البنك المركزي التونسي يلعب دورًا محوريًا في هندسة سعر الصرف، وهو يتدخل باستمرار في السوق من خلال ضخّ العملات الأجنبية أو سحبها بهدف الحفاظ على مستوى معين من التوازن.

لا يخلو بلد من عجز في ميزانيه التجاري، وفي حالة تونس، فإن الدولة تتعايش مع هذا الوضع وفق الظروف العالمية وأن اتساعه وتضييق نطاقه ليس شرطا بسبب ضعف الطلب الداخلي.

◙ صمود العملة استقرار مصطنع تغذيه السياسات النقدية للبنك المركزي، لكن سعر صرفه أمام الدولار واليورو لا يعكس واقع الاقتصاد الحقيقي

في المقابل ثمة استقرار نسبي في حجم الصادرات من قطاعات صناعية وتحويلية مثل الفوسفات وزيت الزيتون، وأيضا السياحة، ما يجعل ميزان المدفوعات يحقق بعض الفائض النسبي، وبالتالي يعزز احتياطي البلاد من العملة الصعبة، ولو مؤقتًا، ومن ثم يدعم الدينار أمام العملات الأجنبية.

كما لا يمكن إغفال تأثير تحويلات المغتربين، التي بلغت أرقامًا قياسية خلال السنوات الأخيرة، ما جعلها إحدى أبرز مصادر العملة الصعبة. هذه التحويلات ساهمت في تمويل جزء كبير من العجز التجاري، وخففت الضغط عن السوق، ما منح الدينار دفعة غير متوقعة في لحظة مفصلية في الكثير من الأحيان.

لكن رغم ذلك، يبقى السؤال مطروحًا: هل هذه العوامل ظرفية أم دائمة؟ وهل تعكس استقرارًا اقتصاديًا أم مجرد حالة من الجمود التي تم تأجيل انفجارها؟

قد يكون صمود العملة مجرد استقرار مصطنع، تغذيه السياسات النقدية للبنك المركزي الرامية إلى كسب الوقت، وتفادي خطر الانهيار الكلي، خاصة في غياب دعم خارجي كبير، أو خطة إصلاح شاملة.

اللافت أن الدينار لا يعكس واقع الاقتصاد الحقيقي، بقدر ما يعكس توازنًا هشا، يتم الحفاظ عليه عبر الضغط على الواردات أحيانا، وتقييد بعض العمليات التجارية، وتشديد السياسة النقدية إلى حدودها القصوى.

قوة العملة ستكون مكلفة على المدى الطويل، لأنها تضرّ بالصادرات وتضعف القدرة التنافسية للمنتجات التونسية، وتشجع على التوريد غير الضروري، ما يعمّق العجز في المستقبل.

جزء من هذا الصعود يعود إلى ضعف الدولار الأميركي ذاته في المرحلة الأخيرة، نتيجة تضارب التوقعات بخفض إضافي في الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي)، وهو ما أعطى هامش تحسن لمعظم عملات الأسواق الناشئة، وليس الدينار التونسي وحده.

هنا، تحتاج الاستنتاجات المتفائلة بخصوص متانة العملة التونسية إلى الكثير من الحذر، لأن قيمتها لا ترتفع بفضل قوة الاقتصاد، بل تصمد في وجه الصدمات الخارجية لأنها محاطة بجدران أثبتت أنها مجدية، بل من تعويمها كما كان يطالب بذلك صندوق النقد.

المفارقة أن ارتفاع قيمة الدينار لا ينعكس على القدرة الشرائية للمستهلكين، بل إن التضخم لا يزال عند مستويات تاريخية، والرواتب تنهار واقعيًا، ما يضعف الثقة العامة بالعملة، ويدفع الناس إلى البحث عن حلول خارج المنظومة المصرفية، عبر شراء الذهب أو الدولار من السوق السوداء أو التحوط من خلال شراء العقارات والأراضي.

◙ القوة الحقيقية للعملة لا تقاس فقط بسعر صرفها في البنوك، بل بثقة الناس بها، وهي الثقة التي تتآكل يومًا بعد يوم بفعل الغلاء وغياب الأفق

القوة الحقيقية للعملة لا تقاس فقط بسعر صرفها في البنوك، بل بثقة الناس بها، وهي الثقة التي تتآكل يومًا بعد يوم بفعل الغلاء وغياب الأفق.

الأخطر من ذلك أن هذا المشهد قد يدفع المسؤولين إلى التراخي في القيام بالإصلاحات، معتقدين أن استقرار الدينار دليل على حسن الأداء، بينما المؤشرات الهيكلية الأخرى تشير إلى عمق الأزمة، فنسبة الدين العام مرتفع ويناهز 80 في المئة إلى الناتج المحلي الإجمالي، وعجز الميزانية مستمر رغم تسجيل فائض ظرفي، ناهيك عن ضعف الاستثمار، وهروب للكفاءات.

واقعيا هذا ما يجعل من الدينار “البطل الزائف” في مسار اقتصادي معقد، يعاني فيه المواطنون من البطالة والخصاصة والشركات من ضعف أنشطتها لأسباب كثيرة، بينما تحافظ العملة على مظهرها الجميل.

صمود الدينار لا يجب أن يُقرأ على أنه إنجاز اقتصادي، بل ربما يكون علامة على تأجيل المواجهة الحتمية مع حقيقة الوضع. فما لم ترتبط السياسة النقدية بإصلاح شامل، وما لم يتم تحرير المبادرة وتطوير الإنتاج، فإن قوته قد تتلاشى.

الاقتصاد لا يُقاس بالأرقام فقط، بل بالواقع المعيش، وواقع تونس اليوم لا يبدو مستقرًا كما يوحي به سعر صرف الدينار، لكن في كل الأحول أفضل حالا من عملات دول “الربيع العربي” والتي أصبحت عبارة عن أوراق نقدية بلا قيمة وبات الناس يدورون في حلقة مفرغة بحثا عن مخرج من التآكل السريع لأموالهم ومدخراتهم.

11