"خراف بانورج".. وعقلية القطيع
حقيقة، نحن نعيش اليوم في عصر تنتشر فيه الحقائق والأحداث وتصلنا أخبارها بسرعة خيالية من خلال وسائل متنوعة ومصادر مختلفة، وتُعرض لنا بالصوت والصورة، وكثيراً ما تُنقل إلينا مباشرة عبر القنوات الفضائية والمنصات الرقمية، لدرجة أننا صرنا نعيش شعوراً وإحساساً وكأنّنا في موقع الحدث نعايش تفاصيله. هذا الواقع يحتّم علينا أن نكون أكثر وعياً وأكثر قدرة على التمييز بين ما هو حقيقة وواقع وصواب، وما هو كذب وزيف وخداع.
للأسف، ما نراه يومياً هو ذلك المشهد المتكرر منذ عقود مضت، ذلك المشهد الذي يتفاعل معه الكثير من الجماهير العربية، أعني ذلك المشهد الذي تتبع فيه الجماهير، أو مجموعة من الناس، شخصيات أو قيادات أو أحزاباً أو تيارات فكرية أو دينية اعتادت على الكذب وتزييف الحقائق وبيع الوهم للناس وخداعهم وتضليلهم. هنا، أستغرب كيف يصدّق الناس هذه السرديات التي تروّج لها تلك الجماعات أو الشخصيات، رغم أن الواقع يناقضها والحقيقة واضحة لا تحتاج إلى دليل أو برهان.
هنا تتبادر إلى ذهني عدة تساؤلات، منها: أين ذهبت العقول؟ أو لماذا غُيّبت؟ وأين غاب الوعي والفكر؟ للأسف، هذه الفئة من الناس تذكّرني بقصة “خرفان بانورج”، حيث جسّد الكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه في القرن السادس عشر مشهداً رمزياً في قصة أذكرها باختصار شديد: رجل يُدعى “بانورج” كان في رحلة بحرية، التقى خلالها بتاجر أغنام جشع يُدعى “دندونو”. خلال رحلتهم وسفرهم، نشب خلاف بينهما، فقرر “بانورج” الانتقام وتدمير “دندونو” بشكل ذكي وخبيث. فقام بشراء “الخروف الزعيم” بصفقة خيالية وسعر مرتفع جداً من “دندونو” الطماع، حتى عاش الأخير وهماً بأنه “نصَب” على عدوّه. لكن بعد أن اشترى “بانورج” الخروف “الطُعم”، قام بسحبه ورميه في البحر، ما جعل بقية أفراد قطيع الخرفان تتفاعل وتقفز خلف “الخروف الزعيم” واحداً تلو الآخر دون وعي ولا تفكير ولا معرفة بمصيرهم القادم. وكانت النتيجة الطبيعية أنهم غرقوا ولقوا حتفهم جميعاً، حتى صاحبُهم “دندونو” الذي حاول إنقاذ الخروف الأخير، فكان مصيره الغرق مع الخرفان.
نحن اليوم في عصر وزمن لا نعيش فيه أزمة معلومات أو قلة مصادر، بل الأزمة تكمن فيما يعانيه البعض من قلة الوعي وانعدام الفكر
هذه القصة تُعتبر رمزاً للتبعية العمياء وسلوك القطيع الذي يفتقر إلى العقل ويتجاهل كل إشارات الخطر مع غياب الوعي والتفكير المنطقي. يمكننا اعتبار “خرفان بانورج” مرادفاً لمفهوم “عقلية القطيع” أو “سلوك القطيع”، الذي يعني انسياق الجماعة بلا وعي وراء آراء أو تصريحات أو أفعال الآخرين، وأحياناً فتاوى لا أصل لها ولا أساس، بل إن المفتي قد يكون غير مؤهل وغير عالم.
خطر عقلية القطيع يكمن في أنها تجعل الجماهير، أو مجموعة من الناس، تنساق خلف أحلام أو شعارات جوفاء أو انتصارات وهمية دون تبصّر ولا معرفة بالحقيقة، ما يؤدي بهم إلى الهلاك والدمار والفساد، كما حصل لـ”خرفان بانورج”. في الواقع العربي اليوم، خاصة في ما يخص القضية الفلسطينية وما يحدث في غزة، يتكرر هذا المشهد مع شخصيات، رغم تناقض أقوالها مع أفعالها، إلا أن خطاباتها تُستهلك يومياً من قِبل البعض رغم ضعفها وهشاشتها المنطقية. ومع ذلك، ما زالت هناك جماهير عربية تحب أن تسير وراء مَن يُضللها ويجعلها تعيش الوهم.
هذه الفئة هي من اختارت ألا تُبصر ولا تعي ولا تفهم ولا تفقه. إن الانقياد الأعمى ليس شرطاً أن يكون سببه الجهل، بل قد يكون أحياناً نتيجة التأثر أو تبنّي أفكار أو أيديولوجيات تؤثّر على عقولهم وتحوّلهم إلى مجرد أتباع لا يرون إلا ما يراه قادة أحزابهم المنحرفة، ولا يرون الواقع بأعينهم، بل يصدّقون الصورة التي تُرسم أو تُصوَّر لهم في مخيّلاتهم.
من هنا، تتجلى ظاهرة “خرفان بانورج” بكل وضوح حين تُختزل القضايا الكبرى في شعارات سطحية وكلمات رنانة لكنها فارغة، وتُروَّج لها شخصيات باعتبارها منقذة أو ملهمة، رغم أن ممارساتها تتناقض مع أبسط مبادئ المنطق وتفتقر إلى القيادة الأخلاقية التي تسعى لتحقيق المصلحة العامة وحفظ الأرواح والدماء.
نحن اليوم في عصر وزمن لا نعيش فيه أزمة معلومات أو قلة مصادر، بل الأزمة تكمن فيما يعانيه البعض من قلة الوعي وانعدام الفكر. فالحقيقة واضحة كوضوح الشمس، لا تحتاج إلى دليل أو إثبات، لكن هناك مَن يتجاهلها أو يغضّ الطرف عنها، ليس لأنها غائبة، بل لأنهم لا يريدون رؤيتها. وهناك مَن يحبّ أن يؤدّي دور “خرفان بانورج” بإرادته، متجاهلاً دعوة العقل والمنطق.