حين تخشى إسرائيل رجلاً لا يشبه إيران ولا الأسد
في سياق إقليمي يتسم بعدم الاستقرار والحذر من الخيارات البديلة، يبرز أحمد الشرع كشخصية لا تشكل تهديدًا عسكريًا مباشرًا، بل تحديًا فكريًا وإستراتيجيًا في التحليلات والتخطيط الإسرائيلي. ليس لأنه معادٍ لتل أبيب صراحةً، ولا لأنه يملك مشروعًا توسعيًا، بل لأنه ببساطة لا يشبه النموذج الذي ترتاح إليه إسرائيل. فهو ليس دمية مذهبية يمكن إدارتها، ولا جنرالًا فاسدًا يسهل احتواؤه، بل مشروع ناشئ لدولة وطنية مستقلة، ذات سردية جمهورية، تنشأ في لحظة كانت فيها الخرائط السياسية معتادة على الحطام لا على المؤسسات.
إسرائيل لا تحتاج في سوريا إلى حليف، بل إلى خصم يمكن التنبؤ بانفعالاته. لذا لم تكن تعارض بقاء الأسد لذاته، بل لطبيعته. كان استنزافه سياسة، وبقاؤه مضمونًا، وارتباطه بمحور إيران ذريعة لشرعنة الضربات الدورية. أما مع الشرع، فالمعادلة تختلف. فهو لا يوفر ذريعة أيديولوجية، ولا ينتمي إلى معسكر واضح، ولا يقدم لإسرائيل صورة عدو مألوف. بل يمثل احتمالًا مزعجًا لدولة قابلة لإعادة البناء، برأس مدني لا طائفي، وبجيش تعاد هيكلته بوصفه حارس السيادة لا وصيًا على الشعب.
التهديد الإسرائيلي ليس من أقوال الشرع، بل من سلوكه. لم يتجه إلى المحور الإيراني، ولم يطلب الحماية الروسية، ولم يعلن قطيعة مطلقة مع أحد، بل حافظ على مسافة متساوية من الجميع، وراكم شرعية داخلية تُبنى على المؤسسات لا على الولاء. وهذا النمط، في حد ذاته، أكثر ما تخشاه إسرائيل. فهي لا تقلق من خطاب ممانع مألوف، بل من رئيس لا يهدد، ولا يُهدَّد، لكنه يعيد تعريف فكرة الدولة على حدودها. الشرع لا يعارض إسرائيل بالشعارات، بل يسحب من تحتها المسوغات التي بنت عليها مشروعها في سوريا: تفتيت الجنوب، شيطنة النظام، وصناعة هوامش متمردة يمكن الاستثمار فيها مستقبلًا.
ما تواجهه إسرائيل مع الشرع ليس نزاعًا أمنيًا، بل معضلة مستقبلية: كيف تتعامل مع رئيس لا يمنحها سببًا للعداء، لأنه يبني دولة؟ ذلك النوع من الصمت السيادي أخطر من كل صواريخ المقاومة، لأنه لا يعلن الحرب، بل ينهي الحاجة إليها
الجنوب الذي حاولت إسرائيل عزله عن دمشق عبر شبكات محلية مسلحة بدأ يستعيد علاقته بالدولة المركزية. لم يعد خطاب “الخصوصية” الدرزية فاعلًا بالقدر الذي يضمن فصلًا وظيفيًا عن العاصمة، وبدأت الدولة السورية تعود إلى تلك المناطق، ليس عبر العسكر، بل عبر الدولة العميقة، والبنية التحتية، والخطاب الوطني. هذا ليس انتصارًا عسكريًا، لكنه بداية هزيمة إستراتيجية لإسرائيل، لأنها تدرك أن الدول لا تعود بصراخ الزعماء، بل بصمت المؤسسات.
الشرع لا يبني مشروعًا عسكريًا، بل يعيد تعريف المشهد السوري من الداخل: إزالة الرموز الطائفية من الحكم، تقليص الدور الأمني في القرار السياسي، وفتح المجال العام أمام مكونات كانت تُدار سابقًا بمنطق الأوامر. هذا الانتقال، ولو كان بطيئًا، يزعزع المنطق الذي بنت عليه إسرائيل إستراتيجيتها السورية منذ 2011: سوريا الضعيفة، المقسمة، المتنازعة، المحكومة بأشباه حكومات.
قد تسكت إسرائيل عن الشرع، لكنها لا ترتاح لوجوده. فهو ليس خطرًا وجوديًا، بل خطر معنوي. إعادة بناء سوريا كدولة يمكن أن تطالب مجددًا بالجولان، لا بشعاراتها، بل بأدوات القانون والدبلوماسية الدولية، التي طالما خذلت الفوضى. وحين تبدأ الدولة السورية بالتعافي من داخلها، عبر مشروع جمهوري لا طائفي، فإن إسرائيل تفقد سلاحها الأهم: تبرير القصف باسم الردع، وتحويل الجغرافيا السورية إلى مسرح بلا سيادة.
إسرائيل لا تمانع في “سوريا خاضعة لإيران”، لأنها تعرف قواعد اللعبة معها. ولا تمانع في “سوريا الأسد”، لأنها تقصفها دون عواقب. لكنها تخشى “سوريا الشرع”، لأنه مشروع بلا هوامش واضحة، بلا كفيل خارجي، وبلا ماضٍ يمكن استخدامه ضده. هذا النوع من القادة لا يُهاجَم، بل يُحاصَر. يتم إنهاكهم لا إسقاطهم، ويُتركون في متاهات الداخل كي لا يلتفتوا إلى الخارج.
ما تواجهه إسرائيل مع الشرع ليس نزاعًا أمنيًا، بل معضلة مستقبلية: كيف تتعامل مع رئيس لا يمنحها سببًا للعداء، لأنه يبني دولة؟ ذلك النوع من الصمت السيادي أخطر من كل صواريخ المقاومة، لأنه لا يعلن الحرب، بل ينهي الحاجة إليها.
في الشرق الأوسط، الخطر لا يأتي من العدو الصاخب، بل من الجار الذي يبدأ في التصرف كدولة.