بين الطائفيّة والفن: عودة فضل شاكر تفتح جراحا قديمة
فلنبدأ من مبدأ واضح: الطائفية، مهما كان السياق، غير مقبولة. إنها تقسّم، وتجرّد الإنسان من إنسانيته، وتدمّر المجتمعات. كما أن العمل المسلح لا مكان له في عالم اليوم، ليس في ظل وجود الإعلام والمجتمع المدني ومؤسسات العدالة الدولية التي تتيح سبلا بديلة للتعبير عن المظالم والدفاع عن القضايا. ومهما كانت القضية عادلة، فإن حمل السلاح يجعل المرء شريكا في العنف الذي يدّعي مقاومته.
تجسّد قصة فضل شاكر هذا الانزلاق. الفنان اللبناني الشهير، صاحب الصوت العذب والمكانة المحبوبة في قلوب الجمهور العربي، انقلب من نجم ساطع إلى شخصية مثيرة للجدل، اختارت طريق السلاح والطائفية ثم حاولت العودة عبر الفن ذاته الذي سبق أن تبرّأت منه.
في ذروة ما يسمّى بـ”الربيع العربي”، وخلال مهرجان موازين في المغرب عام 2012، أطلق شاكر تصريحات نارية ضد الرئيس السوري بشار الأسد، الذي كان آنذاك لا يزال في السلطة. كانت تصريحاته تعكس غضبا شعبيا مشروعا من الجرائم المرتكبة بحق المدنيين في سوريا. لكن شاكر لم يكتفِ بالكلمات، بل اتخذ لاحقا خطوات أكثر خطورة حين التحق بالشيخ المتشدد أحمد الأسير، أحد أبرز وجوه الخطاب الطائفي في لبنان. وهناك، تحت حماية الأسير، أدلى شاكر بعدد من التصريحات التي أظهرت تحوّله الجذري. قال يوما “هذا توبة لله عز وجل. الفن ما عاد بيعنيلي أبدا. وحتى صرت ما أطيق، اسمع موسيقى.”
وقد تداولت وسائل الإعلام في تلك الفترة مقطع فيديو له يسخر فيه من مقتل رجلين خلال اشتباكات، قبل أن يتبيّن لاحقا أن الفيديو صُوّر قبيل معركة عبرا، وأن القتيلين لم يكونا جنديين، وفقا لتصريحاته وشهادة مرافقيه لاحقا.
◄ لا يمكن أن يكون الغناء واجهة للتطهّر من ذنوب أيديولوجية خطيرة، ولا يجب أن يُمنح شاكر بعد رفع السلاح ترف العودة بلا حساب
لكن التحول لم يكن فقط أيديولوجيا أو دينيا، بل كان أيضا سياسيا. شاكر كان هدفا لمسلحي حزب الله، وفضّل أن يبادل شهرته بالحماية التي وفرها له الأسير في صيدا، في وقت بلغ فيه التوتر الطائفي ذروته.
ومع مرور الأيّام تبيّن أنّ الصراع بين الأسير وحزب الله لم يكن خلافا مذهبيا تقليديا فحسب، بل جسّد لحظة احتقان خطير، إذ قدّم الأسير نفسه كمدافع عن “السنّة المظلومين”، داعيا علنا إلى التسلّح ضد ما وصفه بـ”هيمنة حزب الله على الدولة.” وقد أدى ذلك إلى اشتباكات دامية مع الجيش اللبناني في صيف 2013، في معركة عبرا الشهيرة التي سقط فيها عناصر من الجيش ومدنيون، وانتهت بتفكك جماعة الأسير وهروب شاكر إلى مخيم عين الحلوة.
وخوف شاكر من المثول أمام العدالة يكشف مأزقا أعمق: أزمة ثقة متجذّرة بمؤسسات الدولة، يتحمل حزب الله قسطا كبيرا من مسؤوليتها. هذا الحزب الذي أدانته المحكمة الدولية باغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري لم يسلّم المتهمين الخمسة، بل شيّعهم بوصفهم “شهداء” بعد أن قضى بعضهم في معارك إلى جانب النظام السوري.
شاكر، شأنه شأن الكثيرين، شاهد كيف أعاق الحزب وحلفاؤه مسار التحقيق في انفجار مرفأ بيروت عام 2020، عبر الضغط على القاضي طارق البيطار، وشاهد كيف أُغلق ملف اغتيال الناشط والمفكر السياسي لقمان سليم، أحد أبرز منتقدي الحزب، قبل أن يُعاد فتحه بعد تقلّص سطوة الحزب إثر الضربات الإسرائيلية الأخيرة. في بلد تنهار فيه العدالة تحت وطأة السلاح، من الطبيعي أن يشعر المواطن بالخذلان. وإن كان لا بد من تسمية المسؤول عن هذا الشعور العميق بانعدام العدالة، فلا شك أنه حزب الله.
ومع ذلك، يبقى الخوف من الظلم – مهما كان مشروعا – عذرا لا يكفي لتبرير خطاب التحريض. فضل شاكر اختار الاحتماء بأحمد الأسير في وقت كان هدفا مشروعا لحزب الله، لكنه بذلك انخرط في مشهد طائفي حاد، وساهم في تعميق الانقسام. أنصاره يرون أنه تصرّف بدافع الانفعال، منزله نُهب، والمذبحة في سوريا أفقدته توازنه. وهو نفسه أقرّ بأنه لم يستطع السيطرة على مشاعره. لكن العاطفة، مهما كانت جارفة، لا تبرر خطاب الكراهية، ولا تعفي صاحبه من مسؤوليته الأخلاقية.
اليوم، وفي محاولة لإعادة رسم صورته، يعود فضل شاكر إلى الغناء مطلقا أحدث أغانيه “الحب وبس” ليفتتح بها الموسم الصيفي 2025 وذلك بعد إطلاق أغنية “أحلى رسمة” في أبريل، التي تجاوزت مشاهداتها على يوتيوب 40 مليون مشاهدة. وتُعد هذه الأغاني جزءا من عودة تدريجية بدأها عام 2018 بأغنية “شبعان من التمثيل.”
لكن عودته إلى الفن لم تمر دون اعتراضات، تحوّلت أحيانا إلى موجات غضب في لبنان وغيره من الدّول العربيّة. فقد سحبت شركة الإنتاج المصرية AG Group الأغنية من المسلسل التلفزيوني “لدينا أقوال أخرى” بعد موجة انتقاد حادّة، ولم يعبّر الفنانون عن دعم علني له، ما عدا الفنّانة المصريّة شيرين عبدالوهاب التي زارته في عين الحلوة عام 2022 ما دفع السلطات اللبنانية لاستدعائها للتحقيق.
تلميع صورة شاكر تواصل أيضا مع إطلاق الوثائقي “يا غايب… فاضل شاكر”، الذي قدّم مقابلة مطوّلة معه، وقوبل بردود فعل متباينة حيث اعتبره البعض وسيلة للعب دور الضحيّة وتبرئه رجل أدانه غيابيا القضاء اللبناني بجرائم لا يمكن التّغاضي عنها أو الاستهانة بها.
◄ الفنان اللبناني الشهير، صاحب الصوت العذب والمكانة المحبوبة في قلوب الجمهور العربي، انقلب من نجم ساطع إلى شخصية مثيرة للجدل، اختارت طريق السلاح والطائفية
شاكر يريد أن يصوّر نفسه كرجل أسيء فهمه، رجل حطّمه ما شاهده من أهوال في سوريا وخانته وسائل الإعلام. يقول إن أقواله حرّفت، وإن كل “ذنبه” كان التعاطف مع الشعب السوري. يؤكد أن الموسيقى، التي كانت ذات يوم لا تطاق بالنسبة إليه، أصبحت اليوم ملاذه الوحيد.
لكن، هل ينبغي تصديقه؟ ألا ينبغي أن تسبق المساءلة أيّ حديث عن الغفران والتّوبة؟ لقد رأينا ما رآه على الشاشات عندما اندلعت الحرب السوريّة. وانكسرنا كما انكسر. بعضنا تظاهر، بعضنا لجأ إلى الكتابة وفضح الممارسات الدمويّة لنظام الأسد، كتبنا، وبعضنا الآخر نكّل به حتّى في السجون، ولكنّنا، ونحن كثر، لم نرفع السلاح.
والوضع الآن في كلمة كما يلي: لقد أُدين شاكر غيابيا وحُكم عليه بالسجن، و لكن لن يختفي، لا بالتلميع ولا بالتّعاطف سيل الأسئلة المحرجة حول ماضيه.
البعض يعتقد أن شاكر يراهن على التحولات السياسية الحالية. فمع انتخاب قائد الجيش السابق جوزيف عون رئيسا للجمهورية اللبنانية، واتجاهه نحو نزع سلاح الجماعات الفلسطينية في المخيمات – كخطوة تمهيدية لنزع سلاح حزب الله – يرى البعض أن شاكر، المقيم حاليا في مخيم عين الحلوة، يأمل أن يكون له نصيب من هذا التوجه. وقد يراهن أيضا على تعاطف الإسلاميين الذين أطاحوا بنظام الأسد وشكلوا حكومة تحت قيادة الرئيس أحمد الشرع.
مهما كانت دوافع شاكر، فإن قضيته تكشف حجم الهوة بين الفن كرسالة إنسانية، والطائفية كسلاح قاتل. لا يمكن أن يكون الغناء واجهة للتطهّر من ذنوب أيديولوجية خطيرة، ولا يجب أن يُمنح شاكر بعد رفع السلاح ترف العودة بلا حساب.
لبنان لا يحتمل مزيدا من شاكر أو أسير. بل يحتاج إلى مواطنين يرفضون الانقسامات الطائفية، ويناضلون من أجل العدالة بوسائل سلمية وديمقراطية. وهذا يتطلب مراجعة سياسية وثقافية شاملة، مراجعة تضع حدا لفكرة أن أيّ قضية تبرر حمل الكلاشينكوف، وتجعل من الفن والسياسة والضمير أدوات للشفاء، لا للتحريض.