انقطاع الكهرباء في العراق يثير شكوكا بالتخريب ويكشف عمق الفشل الحكومي
بغداد – شهد العراق حالة من الفوضى بعد انقطاع شبه تام للتيار الكهربائي لساعات عدة، وهو ما دفع وزارة الكهرباء إلى الإعلان عن تعرض المنظومة لـ"انطفاء تام" بسبب ارتفاع الحرارة التي بلغت مستوى قياسيا وزيادة في الاستهلاك في محافظتي بابل وكربلاء.
ويأتي هذا الانهيار في وقت حرج، مع وصول درجات الحرارة الى ما بين 48 و50 مئوية في بغداد و11 محافظة بوسط وجنوب البلاد، مما يضاعف من معاناة المواطنين.
ويؤثر ارتفاع الطلب على الكهرباء بشكل خاص في محافظة كربلاء، حيث يتوافد ملايين الزوار الشيعة هذا الأسبوع لإحياء ذكرى أربعين الإمام الحسين.
ورغم محاولة الوزارة تفسير الانقطاع بعوامل فنية وطبيعية، إلا أن تصريحاتها المتضاربة حول "عمل تخريبي متعمد" أثارت الشكوك وعمقت حالة الغموض، لتكشف عن أزمة مزمنة تتجاوز مجرد عطل فني، بل تمتد لتلامس ملفات الفساد والضعف الإداري الذي ينهش قطاعا حيويا في البلاد.
في بادئ الأمر، أرجع المتحدث باسم وزارة الكهرباء أحمد موسى سبب الانقطاع إلى "زيادة الأحمال الكهربائية" قائلا في بيان "نظرا لارتفاع درجات الحرارة لأرقام قياسية غير مسبوقة، وتنامي الطلب على الاستهلاك، وبسبب زيادة الاحمال الكهربائية في محافظتي بابل وكربلاء المقدسة والتي تشهد زخما مليونيا من الزائرين، فقد تعرض خطا نقل للطاقة إلى الانفصال، وخسارة الشبكة لأكثر من ستة آلاف ميغاواط بشكل مفاجئ وعرضي".
وأضاف أن هذا الحادث "أدى الى تسارع معدل ترددات الوحدات التوليدية، وبالتالي انفصالها عن العمل والانطفاء التام للمنظومة".
واشار إلى ان "ملاكات الكهرباء تعمل بشكل مستنفر" لإعادة الوحدات المنفصلة والخطوط الناقلة تدريجا "خلال الساعات القادمة".
لكن سرعان ما تبدل الموقف الرسمي، إذ عادت الوزارة لتشتبه في وجود "عمل تخريبي متعمد" أدى إلى خروج خمس محطات كهرباء رئيسية عن الخدمة فجأة.
وأمر وزير الكهرباء، زياد علي فاضل، بتشكيل لجنة تحقيقية عاجلة لتقديم نتائجها وتوصياتها خلال 24 ساعة، في محاولة لكشف حقيقة ما حدث، وذلك وفق وثيقة أوردتها وكالة شفق نيوز.
هذا التضارب في الروايات، بين تفسير فني وتلميح أمني، يعمق من حالة الغموض ويثير تساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء هذا الانهيار الكامل للشبكة، مما يزيد من استياء الرأي العام الذي بات يرى في كل انقطاع للكهرباء دليلا على فشل حكومي متجدد.
وتعد الكهرباء من أكثر القضايا الشائكة في العراق، حيث تشتدّ الانقطاعات اليومية للتيار الكهربائي وخصوصا في الصيف عندما تقترب الحرارة من 50 درجة مئوية، ممّا يؤدي إلى تصاعد الاستياء الشعبي في بلد ذي بنية تحتية متهالكة وينخره الفساد.
وفشلت الحكومات المتعاقبة في معالجة هذه المشكلة المزمنة، على الرغم من إنفاق نحو 41 مليار دولار على هذا القطاع، وذلك لعدة عوامل متداخلة، في مقدمتها الفساد المستشري الذي يمنع الاستفادة الكاملة من المشاريع المنفذة، والبنية التحتية المتهالكة التي لم تتطور لتواكب الزيادة السكانية والطلب المتزايد على الطاقة.
وأمام هذا الواقع، أصبح الاعتماد على المولدات الخاصة بديلا وحيدا لسد العجز المتزايد، لكن هذا الحل المؤقت يساهم في التلوث ويزيد من حدة ارتفاع درجات الحرارة.
وتعمقت الأزمة أكثر مع توقف إمدادات الغاز الإيراني، الذي أدى إلى فقدان العراق لأكثر من 5500 ميغاواط من الطاقة، وهو نقص لم تتمكن الحكومة من تعويضه، مما زاد من ساعات الانقطاع في معظم مدن البلاد.
وفي ظل هذه الأزمة، وجه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وزارة الكهرباء بتنظيم الاستهلاك من خلال تفعيل "جباية" عادلة وذكية ومرنة، ووعد بأن يشهد صيف عام 2026 تأمين منصة توفر الغاز. لكن هذه الوعود لم تهدئ من غضب الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، الذين انتقدوا غياب التجهيز عن معظم محافظات الوسط والجنوب، مستشهدين بتصريحات سابقة لرئيس الوزراء.
ومساء، أعلن مركز السيطرة الجنوبية في وزارة الكهرباء "عودة تدريجية" للطاقة الكهربائية في محافظتي ذي قار وميسان، لافتا إلى أن عودتها للبصرة ستتطلب ساعات "ومن الممكن أن تستقر بحلول فجر" الثلاثاء.
وفي خضم هذه الفوضى، يبرز إقليم كردستان العراق كنموذج مختلف، إذ لم تنقطع التغذية بالتيار الكهربائي عنه. يعود ذلك إلى أن الإقليم يتمتع بحكم ذاتي ويعمل على تحديث قطاعه الخاص، مما يجعله قادرا على توفير الكهرباء لسكانه بدون انقطاع، وهو ما يكشف عن الفجوة الكبيرة في الأداء الإداري والقدرة على توفير الخدمات الأساسية بين الإقليم والحكومة المركزية.
وأكد المتحدث باسم وزارة الكهرباء في حكومة إقليم كردستان، أوميد أحمد، أن الإقليم قدم دعما لوزارة الكهرباء العراقية عبر تزويدها بجزء من إنتاجه الكهربائي.
وأوضح أحمد أن شبكة الكهرباء العراقية لديها فاقد يتجاوز 20 ألف ميغاواط، في حين تتعامل حكومة الإقليم مع الملف الكهربائي بمسؤولية وانضباط، مبينًا أن القدرة الإنتاجية الحالية في كردستان تتجاوز 8 آلاف ميغاواط، ومع اكتمال مشروع "روناكي"، سيرتفع الإنتاج لتلبية الطلب المتزايد.
وأشار أحمد إلى أن نحو مليون و700 ألف مواطن باتوا يستفيدون من الكهرباء المستمرة حتى الآن، ومن المتوقع أن تكتمل تغطية المشروع لمراكز المدن هذا العام، فيما سيحصل الإقليم على كهرباء متواصلة على مدار الساعة نهاية عام 2026.
من جهته، أعلن نائب مدير مكتب رئيس حكومة إقليم كردستان، عزيز أحمد، عن استعداد الإقليم لتقديم الدعم الفني والمساعدة اللازمة للحكومة الاتحادية في مواجهة الأزمة.
وشدد في تدوينة على منصة إكس على ضرورة معالجة جذور الأزمة واعتماد نهج إدارة الطلب وترشيد الاستهلاك، مشيرا إلى أن مشروع "روناكي" في الإقليم يهدف إلى مواجهة هذه الأزمة من خلال الاستخدام المسؤول للطاقة، وضبط الطلب، وفرض تعرفة جديدة على الاستهلاك، داعيًا بقية أنحاء العراق إلى اتباع نفس النهج للحد من الانقطاعات.
وجاء انهيار منظومة الطاقة الكهربائية العراقية في خضم موجة حرّ من المتوقع أن تستمر لأكثر من أسبوع.
وأوضح المتحدث باسم هيئة الأرصاد الجوية عامر الجابري ان ارتفاع درجات الحرارة بالعراق خلال العقود الماضية كان يختلف عن الوضع الراهن.
وأضاف أن "العراق يتعرض الآن الى موجات حر أكثر شدة و أكثر تكراراً مقارنة بالقرن العشرين" مُشيرًا إلى التغيير المناخي والعوامل البشرية.
وأشار الجابري أيضًا إلى الجفاف وتراجع هطول الأمطار، كما تحدث عن "كارثة" جرف الأراضي الزراعية والتصحر.
وأورد ان "مولدات الكهرباء الخاصة، وإن كانت مفيدة، إلا أن انبعاثاتها الغازية تؤثر وتساعد في ارتفاع درجات الحرارة".
وفي القاسم في محافظة بابل، قال عامل البناء حيدر عباس البالغ 44 عاما إن "درجات الحرارة عالية جدا ولا استطيع العمل بسببها".
وتابع "ليس لدينا كهرباء (التيار) يأتي ساعتين ننام خلالهما ونرتاح"، لافتا إلى أن "وضعه المادي سيئ" وهو ما يحول دون شرائه مكيفا للهواء.
في يوليو 2023، تسبب حريقٌ في محطة نقل كهرباء بجنوب البلاد في انقطاعٍ واسع النطاق للتيار الكهربائي.
وبينما تعتمد الغالبية العظمى من العراقيين على مولدات الكهرباء الخاصة، إلا أن هذا المصدر لا يكفي دائمًا لتشغيل جميع الأجهزة المنزلية، وخصوصا مكيفات الهواء.
وللحفاظ على استمرارية الكهرباء بدون انقطاع، يحتاج العراق إلى إنتاج ما يقارب 55.000 ميغاواط خلال ذروة الاستهلاك. وهذا الصيف، ولأول مرة، تمكنت محطات الطاقة العراقية من الوصول إلى عتبة 28.000 ميغاواط، وفقًا للسلطات.
ويعاني العراق الذي تعتبره الأمم المتحدة من الدول الخمس الأكثر تأثرا بالتغيّر المناخي، تداعيات عقود من النزاعات والفساد المستشري في غالبية المرافق العامة.