انخراط دول الخليج في تشكيل سوريا الجديدة يضعف نفوذ تركيا
تشهد سوريا مرحلة انتقالية مليئة بالتحديات، تتمحور حول إعادة بناء الدولة وإعادة صياغة التوازنات الإقليمية. ويلعب النفوذ المتزايد لدول الخليج والضغط الأميركي–الإسرائيلي دورا محوريا في تحديد مسار الانتقال، فيما تواجه تركيا تحديات كبيرة في الحفاظ على موقعها الاستراتيجي التقليدي.
الرياض- منذ انهيار نظام بشار الأسد وارتقاء أحمد الشرع إلى رئاسة سوريا، دخلت دمشق مرحلة انتقالية جديدة تحمل انعكاسات إقليمية كبيرة، أبرزها صعود دور دول الخليج في صياغة معادلة ما بعد الأسد، بما يضع تركيا أمام تحديات متزايدة ويضعف نفوذها التقليدي في الملف السوري.
وفي مايو 2025، اجتمع الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرياض، وهو الاجتماع الذي شكّل نقطة تحول حقيقية في إدارة الأزمة السورية، إذ رسم الأسس لرفع تدريجي للعقوبات عن دمشق وفتح المجال أمام ضخ استثمارات خليجية واسعة، مع رعاية السعودية لمفاوضات حساسة.
ودفعت هذه التحولات السياسية والاقتصادية تركيا، التي كانت لاعبا محوريا في الملف السوري لعقد كامل، إلى مواجهة واقع جديد يضعف من موقعها الاستراتيجي ويحد من قدرتها على التأثير في القرارات المصيرية.
ووجدت تركيا، التي راهنت على الملف السوري كجزء من أمنها القومي وإدارة أزمة اللاجئين، نفسها أمام هواجس متزايدة تتعلق بتراجع تأثيرها لصالح النفوذ الخليجي المتنامي، بالإضافة إلى ضغوط إسرائيلية وأميركية لتشكيل ترتيبات أمنية جديدة في الجنوب السوري.
بتصدر الرياض دور الوسيط السياسي، تجد أنقرة نفسها مضطرة للتعامل مع واقع لم تعد فيه أدوات القوة التقليدية—العسكرية أو الأمنية—كافية لضمان موقع فاعل في صنع القرار السوري
ومع دخول دول الخليج بقوة في التمويل وإعادة الإعمار وإدارة ملفات الاقتصاد السوري، فإن تركيا فقدت السيطرة على الأدوات التي كانت تمارس من خلالها نفوذها سابقا، سواء على صعيد الموانئ أو شبكات التجارة أو حتى إدارة مشاريع التنمية. فالاستثمارات الإماراتية في الموانئ، والتمويل القطري لإعادة جدولة الديون، والتدخل السعودي في رعاية ملفات حساسة، كل ذلك يجعل القرار السوري اليوم مرتبطا بشكل مباشر بالعواصم الخليجية، بينما يقتصر دور أنقرة على حدودها الشمالية وإدارة الملفات الأمنية المحددة.
ولم يقتصر التراجع التركي على الجانب الاقتصادي، بل امتد إلى المجال الأمني والسياسي. فملف الأكراد في شمال شرق سوريا، الذي كان يمثل بطاقة ضغط استراتيجية لأنقرة، أصبح اليوم مرتبطًا بترتيبات دولية–خليجية تهدف إلى موازنة النفوذ العسكري والاقتصادي على الأرض.
وفي الجنوب السوري، حيث تسعى إسرائيل لتوسيع منطقة عازلة تضمن أمنها، ومع تحالفها مع الولايات المتحدة، تجد أنقرة نفسها خارج دائرة التأثير المباشر، مما يضعف قدرتها على التأثير في مستقبل التوازنات الإقليمية.
ولم يقتصر انخراط دول الخليج في الملف السوري على التمويل أو الدعم السياسي، بل امتد ليشمل إدارة ملفات حساسة أبرزها إعادة إدماج دمشق في المجتمع العربي والإقليمي، وهو ما يترك تركيا أمام معضلة واضحة: إما القبول بدور ثانوي محدود يشمل إدارة الحدود ومراقبة الوضع الأمني في شمال شرق سوريا، أو محاولة العودة إلى المعادلة من خلال تحالفات جديدة، وهو خيار صعب في ظل التفوق المالي والسياسي للخليجيين وغياب القدرة التركية على منافستهم في أدوات النفوذ الاقتصادية.
ويتزامن هذا التراجع التركي مع انسحاب تدريجي للقوى التقليدية في سوريا، مثل إيران وروسيا، ما وفر مساحة واسعة لدول الخليج لتقود مرحلة الانتقال، سواء عبر التمويل المباشر أو الوساطة السياسية أو الدعم لإعادة الإعمار.
وفي ظل هذه المعادلة، لم تعد تركيا تتمتع بالقدرة على التحكم في مجريات الأمور أو فرض شروطها كما كانت تفعل في السنوات السابقة، ويبدو أن نفوذها قد اقتصر على الحد من المخاطر المباشرة على الحدود ومراقبة ملف اللاجئين، دون أن يكون لها تأثير حقيقي على صياغة مستقبل الدولة السورية.

وتتضاعف الهواجس التركية مع التحديات الداخلية التي تواجهها الدولة، خصوصًا مع الأزمات الاقتصادية المتصاعدة وأعباء اللاجئين، في وقت يشهد فيه الخليج صعودًا متصاعدًا في النفوذ السياسي والاقتصادي. فالدور التركي أصبح محصورًا في مراقبة وتحجيم التهديدات المباشرة، بينما تتحكم دول الخليج بخطوط التمويل وإعادة الإعمار والوساطة السياسية، وهو ما يجعل تركيا تواجه خطر العزلة في معادلة سوريا الجديدة، إذ لم يعد لها مقعد فاعل في طاولة صياغة القرارات الكبرى، سواء على صعيد السياسة الداخلية السورية أو على صعيد الترتيبات الإقليمية التي تحدد مستقبل الدولة.
ومع استمرار انخراط دول الخليج في المعادلة السورية، تبدو العلاقات التركية–الخليجية أمام منعطف حساس قد يحدد شكل التوازنات الإقليمية لسنوات مقبلة.
وبينما يهيمن المال الخليجي على عملية إعادة الإعمار، وتتصدر الرياض دور الوسيط السياسي، ستجد أنقرة نفسها مضطرة للتعامل مع واقع لم تعد فيه أدوات القوة التقليدية—العسكرية أو الأمنية—كافية لضمان موقع فاعل في صنع القرار السوري.
وقد يضطر صانعو السياسات في أنقرة إلى إعادة تعريف استراتيجيتهم، بالتحول من مقاربة تعتمد على التدخل المباشر إلى مقاربة تقوم على التحالفات السياسية والاقتصادية والبراغماتية، في محاولة لتأمين مصالحها الحيوية دون مواجهة مباشرة مع القوى الخليجية أو إسرائيلية–أميركية.
لم يقتصر التراجع التركي على الجانب الاقتصادي، بل امتد إلى المجال الأمني والسياسي. فملف الأكراد في شمال شرق سوريا، الذي كان يمثل بطاقة ضغط استراتيجية لأنقرة، أصبح اليوم مرتبطًا بترتيبات دولية–خليجية
وعلى المدى القصير، من المتوقع أن تحافظ تركيا على دور محدود في الشمال الشرقي لمراقبة ملف الأكراد، وإدارة مسألة اللاجئين، وتأمين الحدود، وهو ما يمثل الحد الأدنى من النفوذ الذي تستطيع الحفاظ عليه.
لكن على المدى المتوسط، قد تضطر تركيا إلى تقديم تنازلات ضمنية لدول الخليج، خصوصًا في الملفات التي تتعلق بإعادة الإعمار والمفاوضات مع دمشق وإسرائيل، لتفادي التهميش الكامل وللحفاظ على قدرة التأثير في بعض الملفات الأمنية.
وهكذا، ستتحول العلاقة بين أنقرة والخليج إلى توازن دقيق يقوم على المصالح المشتركة، مع تبادل النفوذ الاقتصادي والسياسي بشكل أكثر وضوحًا، وربما ظهور شراكات محدودة في مجالات معينة مثل الطاقة أو البنية التحتية. وأما على المدى البعيد، فإن تراجع النفوذ التركي في سوريا قد يعيد صياغة دورها الإقليمي بشكل أوسع.
ومع استمرار الهيمنة الخليجية على الملف السوري، ستواجه أنقرة تحديات تتعلق بالحفاظ على مكانتها في حلف شمال الأطلسي، وعلاقاتها مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى قدرتها على مواجهة توسع النفوذ الإيراني أو الإسرائيلي في مناطق حساسة.
وإذا لم تتمكن تركيا من تطوير أدوات جديدة للنفوذ، فقد تتحول سوريا إلى مساحة إقليمية يتم فيها تقاسم النفوذ بين الولايات المتحدة والخليج وإسرائيل، بينما تظل أنقرة في موقع ثانوي، يقتصر على مراقبة الحد الأدنى من مصالحها الأمنية والاقتصادية.
التداعيات الأمنية لهذا التراجع قد تكون واسعة النطاق، فسيطرة الخليج على عملية إعادة الإعمار والتفاوض مع دمشق وإسرائيل يمكن أن تؤدي إلى فرض ترتيبات استراتيجية جديدة في الجنوب والشرق السوري، من شأنها أن تؤثر على التوازن العسكري والسياسي في المنطقة، وتزيد من الضغوط على تركيا للتكيف مع واقع جديد لم تعد تتحكم فيه.
كما أن تراجع القدرة التركية على التأثير في الملف السوري قد يُضعف نفوذها في قضايا إقليمية مرتبطة بالأمن الإقليمي، مثل مكافحة الإرهاب، ومنع تهريب الأسلحة، وضبط حركة المجموعات المسلحة على الحدود، بما في ذلك الجماعات الكردية والمليشيات المحلية.

وفي المقابل، يتيح الانخراط الخليجي فرصة لإعادة ترتيب العلاقة بين تركيا والخليج ضمن أطر جديدة، قد تشمل التعاون في مجالات الاستثمار والبنية التحتية، وربما المشاركة في مشاريع اقتصادية محددة في سوريا، بحيث يمكن لتركيا أن تجد موطئ قدم ضمن الترتيبات الجديدة، لكن دون أن تكون لها اليد العليا كما كانت عليه سابقًا.
ومع ذلك، فإن نجاح هذه المقاربة يعتمد على قدرة أنقرة على التفاوض بحنكة، واستغلال النفوذ الاقتصادي والسياسي المتبقي لديها، لتفادي الانزلاق نحو تهميش كامل.
ويرى محللون أن سوريا الجديدة تعكس تحولا استراتيجيا في توازن القوى الإقليمي: حيث أصبح المال الخليجي والسياسة الأميركية–الإسرائيلية أدوات مركزية في إعادة هندسة الدولة السورية، فيما تقلص نفوذ تركيا تدريجياً إلى أدوار محدودة تتعلق بالأمن والحدود.
وستظل قدرة أنقرة على حماية مصالحها ووجودها الإقليمي مرتبطة بمدى نجاحها في التكيف مع هذه المعادلة الجديدة، وبقدرتها على تحويل الهواجس والتحديات إلى فرص للتعاون، دون فقدان مكانتها كفاعل إقليمي فاعل في صناعة مستقبل سوريا والمنطقة.