"الوصفة" الإبداعية
استفاد الكثير من المبدعين العرب من البيئات التي نشأوا فيها حين كانت النزعة الريفية شعارا لحقبة زمنية معينة، فبرزت أسماء، تعدّ الآن من رموز الثقافة العربية، ولكن حين تراجعت المنظومة الأيديولوجية التي حملت تلك النزعة، أصبحت البيئة عبئا على المبدع وعلى المتلقي، بل إنها سُخِّرت في أحيان كثيرة لخدمة صورة نمطية متخيَّلة، تكرس نظرة معينة للعرب في بعض الدوائر الغربية، ساهمت فيها مجموعة معقدة من الأفكار المسبقة، والسلبية في غالبيتها.
يمكن، في هذا السياق، أن نربط بين تراجع الأعمال الأدبية والفنية القائمة على هاجس معرفة الواقع وتحليله والبحث فيه، وصعود أعمال تركز على العلاقات الحميمة في مجتمعات شرقية تحكمها التقاليد والمحرمات، بطريقة تنسجم بشكل أو بآخر، مع الصورة المتخيلة المكرّسة في العالم الغربي، بل وصل الأمر إلى حديث البعض عن “وصفة”، يشكل اتباعها طريقا للوصول إلى المنابر الأدبية في الغرب، وبالتالي العودة مجددا إلى الشرق كأسماء مكرّسة تتجاوز أزمة العلاقة مع المؤسسات الثقافية التقليدية.
إتقان هذه الوصفة من قبل بعض الكتاب العرب حوّل بعضهم إلى نجوم في الإعلام الغربي، ولكن أحدا منهم لم يتحول إلى ظاهرة عالمية محترمة. فالوظيفة التي يتعامل فيها الإعلام الغربي مع هذا النوع من الظواهر، فيها الكثير من الاستخدام، أو الاستخفاف بالمبدع نفسه وبثقافته، التي لا ينظر إليها ككيان له خصوصيته وفرادته، بل كموضوع لتكريس الصورة المتخيلة إياها.
لقد قيل لأحد أهم الأسماء العربية المعروفة في الغرب “لماذا تكتب بصورة يتوقعها الجمهور الفرنسي؟”. فقال “لأن جمهوري فرنسي!”. وقد نسي هذا المبدع أو تناسى أن جميع موضوعات روايته كتبت عن بلده الأم وليس عن فرنسا، وهو يعرف جيّدا إن كتب رواية فرنسية بموضوعها، فلن يقرأ له أحد من جمهوره الفرنسي.
وهذه المشكلة المحسوسة لا يتحمل وزرها المبدع الملتزم بالوصفة فقط، بل المؤسسات الثقافية العربية المشغولة بتوافه الأمور، والغائبة عن فعل ثقافي يمكن أن يشكل إضافة لصورة الإبداع العربي، الغائبة عن العالم في زمن تتعرض خلاله الشخصية العربية لأبشع عمليات التشويه المتعمد، وصولا إلى الإجهاز على آخر مقوماتها، والمقصود هنا الهوية الثقافية.
فالمؤسسات الثقافية التي تنفق الملايين في بعض الأحيان، على مهرجانات لا طائل من ورائها، لم تقدم حتى الآن، وعلى سبيل المثال، ترجمة متكاملة لأعمال أبي العلاء المعري، بوصفه فيلسوفا شاعرا، على قدم المساواة مع حافظ الشيرازي أو عمر الخيام، اللذين يعرفهما العالم بلغاته كافة بفضل الترجمات الممتازة التي دعمتها الدولة، التي تعتبر نفسها وريثة تراثهما الإبداعي.
ليس عبقرية ولا إبداعا أن نقدم للعالم الصورة التي يريدها هو عنا، فهذه الصورة معروفة لديه، وهي تؤكد المؤكد عنده، ولذلك لا تجد المبدع العربي في قائمات الجوائز الأدبية العالمية، ولا بين الأسماء التي يشار إليها بالبنان في عالم النشر، رغم اختراق أقلية صغيرة لهذه الحقيقة، بسبب كتابة أفراد هذه الأقلية بغير لغتهم الأم.
كاتب من سوريا مقيم في الإمارات