الهجوم البري الإسرائيلي على غزة عملية تواجه تحديات
مع دخول الجيش الإسرائيلي قلب مدينة غزة، تتجلى ملامح واحدة من أعقد معارك المدن في العقود الأخيرة، حيث تتراجع أفضلية التفوق العسكري لصالح خصمٍ يتقن القتال في بيئة مكتظة ومحصنة بشبكات أنفاق عميقة.
غزة- يجد الجيش الإسرائيلي نفسه، مع توسّع الهجوم البري في مدينة غزة، أمام واحدة من أعقد العمليات العسكرية في العقود الأخيرة، إذ يخوض حربًا في بيئة مكتظة بالسكان ويُقدَّر أن بداخلها ما يصل إلى ثلاثة آلاف مقاتل فلسطيني.
وتحولت المدينة، التي دُمِّرت أحياء واسعة منها على مدى نحو عامين من الحرب، إلى مسرح مواجهة يعتبره خبراء عسكريون الأصعب منذ الحرب العالمية الثانية.
ووصف الجنرال الأميركي المتقاعد ديفيد بترايوس، أحد أبرز قادة التحالف الدولي في العراق، معركة غزة بأنها “أصعب حرب مدن منذ عام 1945،” مشيرًا إلى تعقيدات مواجهة عدوّ بلا زيّ موحد، يتنقل في شبكة مترامية من الأنفاق والمقرات تحت الأرض، ويستفيد من المباني الشاهقة كغطاء عسكري.
ولطالما شكّلت المدن مسرحًا مفضلاً للقتال منذ منتصف القرن العشرين، كما يوضح المعهد الفرنسي للدراسات المتقدمة في الدفاع الوطني، وهو اتجاه يتكرر اليوم في كل من أوكرانيا وغزة.
ديفيد بترايوس: معركة غزة أصعب حرب مدن منذ عام 1945
وفي هذه البيئات تتراجع أفضلية التفوق العسكري والتكنولوجي، إذ تتحول المباني والأنفاق والأنقاض إلى ما يسميه الباحث الأميركي جون سبنسر بـ”المعادِل الأعظم” الذي يحدّ من الفوارق بين جيوش كبرى ومجموعات مسلحة أقل عددًا وعدّة.
ويضيف سبنسر أن الاستخبارات والاستطلاع والقدرات الجوية، التي تُعطي عادة ميزة حاسمة في الحروب التقليدية، تصبح أقل فاعلية داخل المدن، حيث المعارك تُخاض غالبًا من مسافة أمتار معدودة، كما حصل في الفلوجة بالعراق حين كان “أول من يضغط على الزناد يفوز.”
ورغم أن الولايات المتحدة دخلت العراق عام 2003 بتفوق ساحق في القدرات الجوية والتكنولوجية والاستخباراتية، فإن معركة الفلوجة بعد عام واحد كشفت محدودية هذا التفوق أمام بيئة حضرية معقدة. فقد تحولت المدينة الصغيرة إلى رمز للمقاومة العراقية، وميدان اختبار لأصعب تكتيكات حرب المدن.
واستثمر المسلحون الذين لم يمتلكوا سوى أسلحة خفيفة وقاذفات بدائية، التضاريس العمرانية بشكل فعال: شبكة أزقة ضيقة، منازل متلاصقة، أبنية محصنة، وأنفاق للتنقل والإمداد. هذا جعل القوات الأميركية تواجه عدوًا غير مرئي، قادرًا على ضربها من مسافة قصيرة ثم الاختفاء في لحظات.
وفي الفلوجة تراجعت جدوى الطائرات دون طيار والأقمار الصناعية، لأن “أهداف العدو” كانت مدمجة في بيئة مدنية مزدحمة بالسكان. كما أن اعتماد الأميركيين على قصف مدفعي وجوي مكثف أوقع خسائر كبيرة في صفوف المدنيين ودمر أجزاء واسعة من المدينة، ما أثار انتقادات محلية ودولية زادت الضغط السياسي على واشنطن.
وأظهرت المعركة التي أُطلق عليها لاحقًا اسم “أم المعارك الحضرية” أن السيطرة على مدينة صغيرة قد تتطلب أضعاف ما يتطلبه إسقاط نظام كامل.
وتكبدت القوات الأميركية مئات القتلى والجرحى، واضطرت إلى القتال شارعًا بشارع، وغرفة بغرفة، في مشهد أعاد إلى الأذهان معارك ستالينغراد وغروزني.
وفي النهاية، ورغم إعلان واشنطن السيطرة على الفلوجة بعد أشهر من القتال، فإن الكلفة البشرية والمادية الباهظة، وفشلها في القضاء الكامل على البنية المسلحة للمقاومة، جعلا من المعركة مثالًا صارخًا على أن التفوق التكنولوجي لا يضمن الحسم في حروب المدن، بل قد يتحول إلى عبء سياسي وعسكري مع مرور الوقت.
◄ التعقيدات تكمن في مواجهة عدوّ بلا زيّ موحد، يتنقل في شبكة مترامية من الأنفاق ويستفيد من المباني كغطاء عسكري
ويتطلب الهجوم على مدينة كغزة موارد هائلة من الجنود والذخيرة والوقت، فضلًا عن احتياطات أمنية مضاعفة. ورغم ذلك لا يضمن تفادي الخسائر. فالمعارك تدور ببطء شديد، وتواجه القوات جيوبًا متفرقة من المقاومة المسلحة.
وتضاعف شبكة الأنفاق الممتدة تحت غزة هذه الصعوبة. ورغم استخدام إسرائيل قنابل خارقة للتحصينات، فإن مداها لا يتجاوز 30 مترًا، في حين يُقدَّر أن بعض الأنفاق تصل إلى عمق 70 مترًا، ما يجعل السيطرة على الأنفاق، التي تمثل شريانًا حيويًا لحماس، تحديًا شبه مستحيل.
ولا تقل الكلفة الإنسانية تعقيدًا عن الكلفة العسكرية. فمدينة غزة، الأكثر اكتظاظًا في القطاع، يقطنها أكثر من مليون نسمة وفق تقديرات الأمم المتحدة. وقد نزح منها بالفعل أكثر من 350 ألفًا، بينما سمح الجيش الإسرائيلي مؤخرًا بممر مؤقت للمدنيين لمدة 48 ساعة فقط.
لكن مع استمرار القصف والدمار الذي طال معظم البنية التحتية تتصاعد الاتهامات بأن الهدف الإسرائيلي يتجاوز هزيمة حماس إلى تفريغ المدينة من سكانها.
واعتبر الباحث الفرنسي بيار رازو في تصريحات لصحيفة “لوفيغارو” أن الإستراتيجية الإسرائيلية باتت أقرب إلى “جعل المدينة غير قابلة للحياة” بدلًا من السيطرة عليها، ما يحوّل المنطق من الغزو إلى التدمير الشامل.
وفي ضوء هذه المعطيات يمكن القول إن الهجوم الإسرائيلي على غزة يواجه تحديات مزدوجة: عسكرية تتعلق بقتال الشوارع والأنفاق، ومدنية مرتبطة بالكلفة الإنسانية الباهظة. فالتفوق العسكري، الذي شكّل دائمًا ركيزة العقيدة القتالية الإسرائيلية، يتآكل في حرب المدن، لتصبح النتائج مرهونة بمدى قدرة الجيش على تحمّل الخسائر من جهة، والتعامل مع الضغوط الدولية والإنسانية من جهة أخرى.
بيار رازو: الإستراتيجية الإسرائيلية باتت أقرب إلى جعل المدينة غير قابلة للحياة
وحين اجتاحت إسرائيل لبنان في يونيو 1982 بهدف إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من الجنوب وضرب بنيتها العسكرية والسياسية، سرعان ما تحوّل مسار الحرب إلى مواجهة حضرية معقّدة داخل بيروت الغربية، التي كانت معقلًا للمقاتلين الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين.
ورغم التفوق الساحق للجيش الإسرائيلي في الجو والبحر والبر، واجهت قواته واحدة من أعقد تجارب حرب المدن في المنطقة. فالمقاتلون الفلسطينيون واللبنانيون اعتمدوا على شبكات الأزقة الضيقة، والمباني المتلاصقة، والتحصينات داخل الأحياء المكتظة بالسكان.
وقد أدّت هذه الطبيعة العمرانية إلى تقييد حركة الدبابات والمشاة الإسرائيليين، وأفقدتهم جزءًا كبيرًا من قوة نيرانهم وقدرتهم على المناورة.
وفي مواجهة هذا التحدي، لجأ الجيش الإسرائيلي إلى قصف مدفعي وجوي مكثف طال أحياء سكنية بكاملها، ما أدى إلى مقتل وإصابة الآلاف من المدنيين وتدمير جزء كبير من البنية التحتية لبيروت الغربية. إلا أن هذا التصعيد العسكري جاء بنتائج عكسية: فقد أثار موجة انتقادات دولية واسعة وفضح حجم الكلفة الإنسانية، فيما تحوّلت بيروت إلى رمز للصمود الفلسطيني واللبناني.
وعلى الرغم من نجاح الحصار في خنق المدينة وقطع الإمدادات، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق نصر عسكري حاسم داخل بيروت.
ومع تزايد الخسائر في صفوف قواتها وتنامي الضغوط الأميركية والأوروبية، اضطرت القيادة الإسرائيلية إلى قبول تسوية بوساطة أميركية سمحت بخروج منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها من بيروت إلى تونس ودول عربية أخرى.
لكن ما بدا آنذاك كإنجاز عسكري لإسرائيل، كشف لاحقًا عن إخفاق إستراتيجي؛ إذ أن خروج المقاتلين لم ينهِ الصراع، بل مهد الطريق لظهور قوى مقاومة جديدة في لبنان، وعلى رأسها حزب الله الذي برز كفاعل رئيسي في المشهد الإقليمي.