المهرجانات الثقافية والفنية في المغرب.. تذكّر جماعي في أُفق العدالة الرمزية
يحظى المغرب بإرث ثقافي عريق ومتنوع، وهو ما باتت تراهن عليه البلاد كقوة ناعمة من شأنها تحقيق العدالة، والتنمية والاستدامة. وفي هذا التمشي بتنا نشهد تنظيم العديد من التظاهرات الثقافية والفنية والمهرجانات غير التقليدية، التي تحتفي أساسا بتنوع التراث، وإن كان بعضه ينقصه الترتيب بشكل أفضل، فإن البعض الآخر حقق نجاحات كبيرة محليا ودوليا.
تشهد الساحة الثقافية المغربية تنظيم مهرجانات ثقافية وفنية بمختلف المدن والدواوير، بشكل يعطي انطباعا بوجود نزعة مؤسساتية لتفعيل فرجة القرب بهدف الاحتفاء بالتراث وتثمينه في إطار فعل تنموي يقوم على الاستثمار في الرأسمال اللامادي. لكن الملاحظ أنها تفتقد لبوصلة توجهها وتضبط مسعاها، في ظل غياب هندسة ثقافية تضمن التقائية السياسات الثقافية الوطنية وتنزيلها على المستوى الترابي بما يتلاءم والحاجيات المحلية في الاعتراف بموروثها الرمزي ضمن نسيج وطني جامع.
في هذا السياق، استوقفنا خلال الأيام القليلة الماضية، تنظيم “المهرجان الوطني للزربية الوراينية في دورته الأولى” بتاهلة خلال الفترة الممتدة من 04 إلى 10 أغسطس 2025، اختير له شعار: “الزربية الوراينية: احتفاء بالتراث وقاطرة للتنمية المستدامة”؛ ويأتي هذا الاختيار لتأكيد رمزية “الزربية الوراينية” ومكانتها في الذاكرة المحلية والهوية الثقافية المتجددة، فقد باتت من العناصر الأساسية في التراث اللامادي الوطني، معترف بأصالته.
التراث مسؤولية مشتركة
بالرغم من ميلاده في قبائل بني وراين إلا أنه تمرد على كل شروط الزمان والمكان في شهرته المعاصرة. تتجسد في خيوطها وأشكالها وألوانها كل معاني الاجتماع الإنساني، فهي وثيقة تشهد على تفاعل الإنسان ومجاله الطبيعي، وتروي الحكايات، العادات والطقوس التي ترسخت عبر السنين في المخيال الجماعي للإنسان العابر، والمُستقر بتراب منطقة تاهلة والنواحي. لكن السؤال الشائك الذي يطرح بإلحاح على كل الفاعلين، سواء الفاعل السياسي أو الناشط المدني والإعلامي والمُثقف هو كيف يمكن جعل الزربية الوراينية بما تحمله من رمزية ثقافية، رافعة للجاذبية الترابية وأداة فاعلة في التنمية المستدامة بشكل يحترم التنوع الثقافي ويعزز العدالة الرمزية؟
تبعثرت عناصر الجواب على هذا الإشكال عبر فقرات البرنامج العام للمهرجان، كأنها لعبة بازل. ويبدو بعد تجميعها، أن الرهان هو صون التراث واستمراريته عبر الأجيال من خلال تفعيل التّذكر الجماعي الذي يصالح الجيل الحاضر مع إرثه الرمزي، ويعيد صياغته في ضوء التحولات الراهنة وإكراهات العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي، والعمل على تحويل الفرد، في انتماءه الترابي، من مجرد مستهلك لرموزه التراثية إلى فاعل في إنتاجها وصيانتها، عبر انخراطه الواعي في الحياة الثقافية المحلية، وإسهامه في صون عناصر الهوية الجماعية المتجددة (كما يقول إدغار موران) في إطار عدالة رمزية ومجالية تجعل من الثقافة جزءًا لا يتجزأ من التنمية.
المهرجان الثقافي والفني أداة تربوية في المواطنة الثقافية، ورافعة تجعل من التراث المشترك أساسًا لمواطنة حاضنة للتنوع
إن كل حدث ثقافي، هو في الحقيقة امتداد لأفكار فلسفية متداولة في الفضاءات النخبوية والأكاديمية، ولعل تنظيم مثل هذه المهرجانات يشكل محكا حقيقيا لاختبار مصداقيتها العلمية خصوصا عندما نتحدث عن الذاكرة الجماعية، الهوية الثقافية، والعدالة الرمزية (موريس هالبواكس، بول ريكور..). فتنظيم مسابقة الطبخ، التي عرفت حضور محكمين دوليين، يعتبر لحظة اعتراف عالمي بذاكرة غذاء متوارث، يربط الأسر والأفراد بذاكرتها، ويمنح الهامش فرصة التحول إلى مركز يُحتفى به، وتتحول فيه الأطباق التقليدية من مهارة محلية إلى لغة للتواصل الحضاري، ومورد رمزي يعزز الجاذبية الترابية.
كما أن الندوات الثقافية، التي تطرقت لمسألة المثقف المحلي (الندوة العلمية الأولى بتاريخ 06 أغسطس 2025) سلطت الضوء على دوره في التوثيق والكتابة الأكاديمية، الأدبية والإبداع الشعري لصون الموروث الثقافي، وإعادة صياغة خيوط الذاكرة المحلية؛ كما ربطت بين تثمين الزربية الوراينية وتعزيز الجاذبية الترابية في الندوة العلمية الثانية، (بتاريخ 09 أغسطس 2025).
ونجحت بذلك في التخلص من النزعة الفرجوية الفجّة كما ترسخت في المخيال الجماعي حول المهرجانات، وأعادت للتراث موقعه في الوعي الجماعي ومنحته شرعية جديدة بوصفه عنصرًا لبناء الهوية ورافعة للتنمية من خلال فعل ثقافي يكرس مفهوم المواطنة الثقافية كما صاغه نيك ستيفنسون، حيث التراث مسؤولية مشتركة بين الباحثين وكل الفاعلين الجمعويين، السياسيين.. والحرفيين والأجيال الصاعدة، بل تجلى عمليا دور المثقف المحلي، في إعادة صياغة رمزية التراث وإدماجه في فعل التذكر الجماعي لصيانة التنوع الثقافي في إطار مقاومة ناعمة ومستمرة للنسيان.
ترسيخ وعي جديد
هكذا منح للزربية الوراينية الاعتراف الذي تستحقه كجزء من “الذات غير المكتشفة”، كما عبر عنه كارل يونغ، وجعلها مادة للتأمل وإعادة الاعتراف بعناصر من ذاكرة الهامش كمكون أساسي للهوية الوطنية؛ وذلك ما تحقق عندما تحولت قاعة الاجتماعات بالجماعة الترابية لتاهلة إلى فضاء عمومي مفتوح للنقاش والتعبير الحر.. أعادت قراءة حاضرها بمرآة تاريخها، المدون والشفهي الراسخ في الذاكرة، ليرتقي بذلك هذا الحدث الثقافي في شموليته إلى ممارسة للعدالة الرمزية حيث يُعاد الاعتراف بما همّشته سياسات المركز لعقود من خلال فقرات تحتفي بتراث غني.
أضف إلى ذلك أن تخصيص فقرات استعراضية لفن التبوريدة، ضمن البرنامج العام للمهرجان يجسد أبعادا رمزية وروحية معقدة، إذ يصعب اختزاله في بعده الفرجوي، فهو يبعث رسالة وفاء واحتفاء بذاكرة الفروسية بالمنطقة التي شكلت في مخيالها الجماعي رمزًا للمقاومة والصمود ضد المستعمر، في فترات عصيبة تحفظها إلى اليوم عدة كتابات تاريخية حول المنطقة.
◙ اختيار الزربية الوراينية كأحد تجليات غنى التراث اللامادي الوطني للاحتفاء به وبأصالته الترابية
أما السهرات الفنية، فهي الوجه الآخر لفعل التذكر، هي ذاكرة وجدانية، ممتلئة بمشاعر الحب والفرح، تُصاغ بالموسيقى والرقص الجماعي والغناء والشعر..، وتتيح لكل المكونات الثقافية أن تُسمِع صوتها ويحتفى بها، بما يكرس مبدأ الاعتراف المتبادل وتعزيز ثقافة المواطنة الحاضنة للتنوع.
لا شك إذا أن اختيار الزربية الوراينية كأحد تجليات غنى التراث اللامادي الوطني، للاحتفاء به وبأصالته الترابية، من شأنه تحقيق الجاذبية الترابية بمنطقة تاهلة والنواحي، بشكل يعزز قيمة التفاعل الخلاق بين المركز والهامش، وتفعيل المسؤولية المشتركة بين الدولة والمجتمع المحلي، المدني والترابي في الحفاظ على المهارات الموروثة ونقـلهـا وتطـويرها، وفـق معـادلة تجعـل من الثقافة جزءًا لا يتجزأ من التنمية.
وعموما، يمكن القول إن المهرجان الثقافي والفني كأداة تربوية في المواطنة الثقافية، ورافعة أساسية لترسيخ العدالة الرمزية التي تجعل من التراث المشترك أساسًا لمواطنة حاضنة للتنوع. وتتحقق من خلال التّذكر الجماعي في إطار عملية بناء تشاركية-جماعية تنتهي بتشكيل هوية ثقافية متجددة، تنهض بالجاذبية الترابية حيث تلتقي الأبعاد المحليّة بالكونية، الهامش بالمركز، الماضي بالحاضر، والمؤسساتي بالاجتماعي، في لحظة احتفاء وإعادة بناء الأمل حيث تُمكن الساكنة من عرض تراثها، والاعتراف بإسهاماتها في الذاكرة الوطنية في إطار الاعتراف المتبادل لترسيخ وعي جديد يرى في التراث اللامادي ذاكرة حية بحمولة رمزية وأفق تنموي واعد، ينأى بهويتها الجماعية من مخاطر التسليع المَقيت والبيروقراطية القاتلة.