المصرف المركزي يضع شروطا لمناقشة الميزانية في ليبيا
طرابلس – أعلن محافظ مصرف ليبيا المركزي ناجي عيسى رفضه مشروع الميزانية العامة للعام 2025، مطالبا رئيس مجلس النواب عقيلة صابر بتأجيل اعتمادها، إلى حين عقد "المزيد من المشاورات بين المصرف ومؤسسات الدولة لوضع ميزانية تحاكي الواقع وتحقق تنمية مستدامة".
وجاءت مطالبة محافظ مصرف ليبيا المركزي في ظل خلاف سياسي محتدم بين سلطات الشرق والغرب، وتحديدا بين حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبدالحميد الدبيبة ومجلس النواب، الذي يتخذ من بنغازي مقرا له، بعدما اتهم حكومة الدبيبة بمنع نواب من السفر إلى المدينة لحضور جلسة مقررة لمناقشة وإقرار الميزانية، وهو ما أدى إلى تأجيل الجلسة وزاد من حدة الانقسام السياسي.
وفي هذا السياق، طرح عيسى، في كتابه إلى عقيلة صالح أربعة ملاحظات وصفها بـ"الجوهرية" لضمان إعداد ميزانية واقعية ومتوازنة تأخذ في الاعتبار مقتضيات المرحلة الراهنة.
وقال عيسى إن أولى الملاحظات هي ما جاء في مراسلته بتاريخ الثالث من يوليو الماضي إلى مقرر لجنة التخطيط والمالية والموازنة العامة بمجلس النواب، والتي أشار فيها إلى "ضرورة التشاور" مع المصرف وفقاً للمادة الخامسة من قانون المصارف، مجددا موقف المصرف من أن إعداد ميزانية موحدة للدولة "ينبغي أن يتم وفق أسس واقعية تراعي الإيرادات الفعلية المتوقعة والقدرة الاستيعابية للاقتصاد الوطني".
وأضاف أن تجاهل هذين الجانبين من شأنه أن يؤدي إلى "تعميق الأزمة الاقتصادية والنقدية التي يواجهها المصرف المركزي منذ أكثر من عقد من الزمن، وهي أزمة أسفرت عن توسع فجوة سعر الصرف واضطرار المصرف إلى إعادة تقييم سعر الصرف مرتين خلال الخمس سنوات الأخيرة، كما يتعين أن تشمل الميزانية تغطية شاملة ومتوازنة لمصروفات جميع مؤسسات الدولة، مع الحذر من خلق ضغوط تضخمية قد تفضي إلى زعزعة استقرار سعر صرف الدينار الليبي".
وأكد محافظ المصرف المركزي أن الميزانية المقترحة بقيمة 160 مليار دينار "لا تتماشى مع واقع الإنفاق العام" إذ أن تقديرات بعض بنود الإنفاق "غير واقعية" منها بندا المرتبات والمحروقات ونفقات التنمية، متابعا "وبالرجوع إلى التقديرات الواقعية لبنود الميزانية ستصل إلى نحو 190 مليار دينار، إذا لم يتم تخفيض بعض البنود الأخرى مثل الباب الثاني والباب الرابع".
وأوضح أن تقديرات الإيرادات بالميزانية المقترحة "غير واقعي"، خصوصاً تقديرات بند أرباح المصرف المركزي وبند إيرادات الرسوم وغيرها، لافتا إلى أنه وفقا لتقديرات الإنفاق بقيمة 190 مليار دينار، وميزانية صندوق الإعمار للعام 2025 البالغة 25 مليار دينار، فإن مجموع الإنفاق سيبلغ نحو 215 مليار دينار، ما سيولد ضغوطا كبيرة على البنك المركزي وسعر صرف الدينار الليبي".
وكان من المقرر أن يعقد المجلس النواب جلسة برلمانية الاثنين لمناقشة مشروع قانون الموازنة العامة للدولة، إلا أنها لم تنعقد حتى الآن.
وأعلن عقيلة صالح رئيس المجلس، في بيان مقتضب، أنه قرر وأعضاء المجلس، الذين حضروا الاثنين، تأجيل الجلسة، لحين وصول نواب المنطقة الغربية.
وقال عبدالله بليحق، الناطق باسم المجلس إن الدبيبة يقف وراء "محاولات التعطيل، في إطار سياسة المناكفة والصراع السياسي على السلطة، بهدف عرقلة جلسة إقرار ميزانية الدولة للعام الحالي".
وأكد بليحق رفض مصلحة الطيران المدني بحكومة الدبيبة، منح الإذن بمغادرة طائرة النواب الآتيين من طرابلس عبر مطار معيتيقة الدولي، مشيراً إلى "أن 50 عضواً من أعضاء المجلس فوجئوا بعد وصولهم إلى المطار، بإلغاء رحلتهم إلى بنغازي".
واشتكى أعضاء في مجلس النواب، من رفض مصلحة الطيران المدني منحهم الإذن للسفر جواً إلى مدينة بنغازي، ووصفوا ذلك بـ"الانتهاك الواضح"، لكنهم لم يكشفوا في بداية الأمر عن الأسباب، فيما امتنعت المصلحة عن التعليق، كما لم تصدر أي بيان رسمي بشأن الأمر.
وأدان النائب الثاني لرئيس مجلس النواب، مصباح دومة أوحيدة، ما وصفه بالإجراءات التعسفية التي تعرض لها عدد من أعضاء المجلس من قِبل مصلحة الطيران المدني في طرابلس، بعد منعهم من السفر عبر مطار معيتيقة إلى مدينة بنغازي للمشاركة في الجلسة.
وطالب دومة في بيان رسمي، النائب العام "بفتح تحقيق عاجل ومحاسبة المتسببين"، وتعهد "بعدم السماح لأي طرف بإعاقة المسار السياسي أو التعدي على مؤسسات الدولة".
وقال إن منع مصلحة الطيران المدني، النواب من السفر إلى بنغازي، هو انتهاك واضح للإعلان الدستوري وحق حرية التنقل". وبعدما أعلن رفضه "أي تدخل يمس استقلالية عمل السلطة التشريعية"، دعا "لتسهيل تنقل النواب لأداء مهامهم دون عراقيل".
واعتبر النائب طارق المشاي أن إلغاء الرحلة جاء قبيل جلسة برلمانية طارئة كانت مخصصة لمناقشة تداعيات القصف الجوي على مدن المنطقة الغربية، وقال إن ما جرى ليس مجرد إجراء إداري، بل قرار سياسي بامتياز، يهدف إلى خنق دور مجلس النواب ومنع ممثلي الشعب من أداء واجبهم في هذه اللحظة الحرجة التي تمر بها البلاد، مردفا “نحن كنواب عن المنطقة الغربية، كنا على استعداد تام للحضور، وتحملنا المسؤولية الوطنية رغم التهديدات والانقسامات، لنناقش ما يتعرض له أهلنا من قصف وترويع.”
وحذر المشاي من أن استمرار هذا السلوك من قبل حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها يمثل خطرا مباشرًا على وحدة البلاد، ويؤسس لسابقة خطيرة يتحول فيها المطار إلى أداة للمنع السياسي، والمؤسسة التشريعية إلى ضيف غير مرغوب فيه في وطنها.
ويسلط هذا الإجراء، الذي يمنع النواب من ممارسة مهامهم الدستورية، الضوء على تداخل السلطات التنفيذية مع العمل التشريعي، مما يعكس ضعف الفصل بين السلطات وغياب الرقابة الفعالة، ويعمق من حالة الشك وعدم الثقة بين الأطراف الليبية.
وهذه الحادثة ليست معزولة، بل هي حلقة في سلسلة طويلة من الخلافات بين سلطات شرق وغرب ليبيا، وتكرار لنموذج تعطيل العمل التشريعي. فكما حدث في سبتمبر 2022 عندما مُنع نواب من السفر لمناقشة ترشيح رئيس جديد للمحكمة العليا ومشاريع قوانين أخرى، يتكرر اليوم نفس المشهد لعرقلة مناقشة الميزانية.
وهذا النمط من السلوك يكشف أن بعض الأطراف تستخدم قوتها ونفوذها في مناطق سيطرتها لمنع أي قرارات لا تخدم مصالحها، حتى لو كانت هذه القرارات حيوية لاستقرار البلاد وتوحيد مؤسساتها.
وتؤكد هذه الأحداث أن الاتفاقيات السياسية السابقة، بما فيها الاتفاق السياسي الليبي الذي يشترط موافقة 120 عضوًا من مجلس النواب، لا تزال تواجه تحديات كبيرة في التطبيق. فمنع النواب من السفر يُعتبر تهديدا مباشرا للعملية الديمقراطية ومحاولة لتعطيل التشريع من خلال التحكم في حركة النواب.
ويزيد هذا السلوك من الشكوك حول قدرة الأطراف الليبية على الوصول إلى تسوية وطنية شاملة، ويعزز من الانقسام الذي يهدد بتقويض أي جهود لإعادة بناء الدولة.
وفي ظل هذه التطورات، تتفاقم الأزمة المالية والاقتصادية، ويبقى المواطن الليبي هو الضحية الأكبر لهذا الصراع. فبدون ميزانية موحدة وخاضعة للرقابة، تستمر الموارد المالية في التشتت، ويزداد الفساد، وتفقد الدولة قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية. ويبعث تكرار هذه الحادثة برسالة واضحة بأن الصراع على النفوذ لا يزال يتقدم على المصلحة الوطنية، وبأن الطريق نحو الاستقرار السياسي والاقتصادي لا يزال طويلا وشاقا.