المشهد السياسي المعاصر في زمن التحالفات المتناقضة
إننا، حين نتابع المشهد السياسي اليوم، نصاب بحيرة وقلق وجودي عميق بشأن جدوى الفهم والتموضع في الساحة السياسية؛ إذ نرى خصوماً صاروا حلفاء، وحلفاء أصبحوا خصوماً، في تحوّلات سريعة لم نعهد لها مثيلاً، تتبعها اصطفافات عالمية متقلبة.
فعلى سبيل المثال، نرى طائفة من الدروز تحتمي بإسرائيل، بينما تتحالف حركة حماس مع إيران، ويلتقي حزب الله -بشكل غير مباشر – مع إسرائيل ضد “سوريا الجديدة”، في الوقت الذي يجد فيه الإخوان المسلمون تقاطعات سياسية مع حزب الله في مواقف متبدلة.
وعلى الجانب الأوروبي، تشهد المجر وسلوفاكيا والنمسا تململاً واضحًا من هيمنة النسق الغربي الأحادي، حيث ترفض تلك الدول الانخراط في التصعيد ضد روسيا، بل وتنتقد أحيانًا الدعم غير المشروط لأوكرانيا، وتدعو إلى حلٍّ دبلوماسي.
أما في الولايات المتحدة، فترتفع الأصوات المعارضة داخل ولايات مثل تكساس وفلوريدا وأوهايو، حيث ينتقد سياسيون وقادة محليون الإنفاق الفيدرالي الهائل على الحرب الأوكرانية، مقابل تهميش الداخل الأميركي المتأزم اقتصاديًا واجتماعيًا.
في هذا السياق المتشابك، تُطرح علينا أسئلة وجودية: كيف نقرأ المشهد السياسي اليوم؟ من نؤيد ومن نعارض؟ من على حق ومن على باطل؟ من هو المصلح؟ ومن هو المفسد؟ كلها تساؤلات تغوص بنا في عمق العبثية السياسية المتبدية كضباب فوق قمم الجبال، تحجب الرؤية عن العامة والمثقفين على حدٍّ سواء، وتشل قدرتهم على اتخاذ موقف واضح، أو الإدلاء برأي مستقل، دون الخوف من الزج بهم في اصطفاف أيديولوجي معين لم يقصدوه أصلاً.
وانطلاقًا من هذه الإشكالية، لا بد من استعراض تاريخي لقراءة تطورات المشهد السياسي؛ فقد كان يجري وفق نسق تقاطع المصالح السياسية والاقتصادية، تحقيقًا لمكاسب المتعة واللذة والنفوذ. غير أن هذا النسق تغيّر بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 (هجمات البرجين)، حيث تحول المشهد السياسي إلى نسق يقوم على التعدد والهيمنة، فبرزت أكثرية تسعى إلى السيطرة على فئات قليلة مستضعفة. ومنذ عام 2019، أي مع بداية جائحة كوفيد – 19، وحتى اليوم، شهد المشهد السياسي العالمي تحولًا جذريًا؛ إذ صار يتغذى على العبث والتمرد من خلال صراع الأيديولوجيات.
◄ لم يعد من الممكن ضبط نسق العبث والتمرد المستند إلى الأيديولوجيا، فالفكرة الأيديولوجية ككرة الثلج تجر فكرةً أخرى والتبرير يجر تبريرًا والتحيز ينتج مغالطةً تجر مغالطات أخرى
هذا الصراع أتاح القتل والدمار، بل والدفاع والتحصين، باسم “آلهة” مستحدثة: الدين، والطائفة، والمذهب. فصارت تهمتك التي قد تستدعي قتلك أو معاداتك أنك مسلم سني، أو شيعي، أو أنك درزي أو علوي.
ولم يعد من الممكن ضبط نسق العبث والتمرد هذا، المستند إلى الأيديولوجيا، أو حتى احتواؤه؛ فالفكرة الأيديولوجية، ككرة الثلج، تجر فكرةً أخرى، والتبرير يجر تبريرًا، والتحيز ينتج مغالطةً تجر مغالطات أخرى. إنه نموذج عبثي بالفعل؛ فكلما انزلقت صخرة الأيديولوجيا، كما في أسطورة سيزيف لألبير كامو، نجد من يعيد رفعها إلى قمة الجبل، وهكذا في دائرة لا تنتهي.
ولا يبدو في الأفق القريب خلاصٌ من هذا النموذج، إلا عبر انتصار أيديولوجيا على أخرى، كما كان الحال أيام الصراع بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الليبرالي. ما نعيشه اليوم ليس إلا عود على بدء، ولكن تحت شعارات دينية، رغم أن الأديان كافة، سواء السماوية أو الوضعية، حرّمت القتل والانتحار. فأي دين نتبع؟ أهو “دين الإنسان المتوحش”، أم “دين الله” الذي يدعو إلى الحب، والحق، والخير، والجمال؟
إذا قرأنا المشهد السياسي المعاصر بهذا المنظار، يمكننا حينها أن نميز تقاطعات الأيديولوجيات في تفاصيلها الدقيقة. عندها فقط نستطيع أن نؤيد أو نعارض على المستوى الجزئي، ولكن من المستحيل أن نؤيد الاصطفاف الكلي ذاته، لأنه مبني على تقاطع أيديولوجي لا على تطابق في المبادئ أو القيم.
ولهذا، ستظل الصورة السياسية مبتورة وغير مكتملة. وعندما نسمع بمواقف متعارضة لدول عربية، نشعر بالتعاطف مع كلا الطرفين، لأن كلاً منهما يمتلك نسخته الأيديولوجية الخاصة، المُقنعة له ولأنصاره.
هذا ما يدفعنا للقول، بجرأة ووضوح، إننا قد عدنا فعليًا إلى الحروب الدينية، كما كانت في بدايات كل الحروب القديمة في زمن “الهلال والصليب”، ولكننا هذه المرة لسنا فقط في حالة دفاع أو ترقّب، بل في حالة هجوم وتعبئة، وإنْ بفروق أكثر دقة وتعقيدًا من ذي قبل.
ختامًا، إن ما نشهده اليوم لا يُعد تحوّلًا بالمعنى الدقيق للكلمة في المشهد السياسي المعاصر، بل هو “عود على بدء”، نستكمل من خلاله ما توقفنا عنده تاريخيًا، ولكن هذه المرة بشكلٍ أدق، ومنهجية أشد. وهذا ما يطرح تساؤلًا جوهريًا: كيف يمكن لأديان يُفترض أنها تدعو إلى السلام، أن تكون سببًا في القتل، والدمار، والتهجير، والإبادة؟ أيّ أديان هذه؟ وأيّ فهم لها نتّبع نحن؟