الشرع يتخلى عن جراح الماضي بفتح علاقات جديدة مع إسرائيل ولبنان
دمشق - أكد الرئيس السوري أحمد الشرع خلال لقائه وفدا إعلاميا عربيا مساء الأحد وجود بحث "متقدم" بشأن اتفاق أمني بين دمشق وتل أبيب، كاشفا عن تنازله عن الجراح التي سببها حزب الله لبلاده، في تصريحات نقلتها وسائل إعلام محلية تمثل تحولا جذريا في المشهد السياسي والأمني بالمنطقة، مما يشير إلى أن سوريا الجديدة تسعى لإعادة ترتيب أوراقها الإقليمية والدولية.
وبحسب بيان للرئاسة السورية، فإن الوفد ضم عددا من مديري المؤسسات الإعلامية ورؤساء تحرير صحف عربية ووزراء إعلام سابقين.
وأوضح الشرع أن أي اتفاق مع إسرائيل سيكون فقط على أساس خط الهدنة لعام 1974، مشددا على أنه "لن يتردد في اتخاذ أي اتفاق أو قرار يخدم مصلحة البلاد".
وتأتي هذه التصريحات في الوقت الذي ذكرت فيه القناة 12 العبرية أن إسرائيل وسوريا تقتربان من توقيع اتفاقية أمنية جديدة بوساطة أميركية وبرعاية دول الخليج، في خطوة بدت حتى وقت قريب ضربًا من الخيال.
وبحسب القناة، يهدف الاتفاق إلى استقرار سوريا بعد سنوات من الحرب الأهلية، والحد من التهديدات على حدودها الشمالية، وإبعاد دمشق عن المحور الشيعي الذي تقوده إيران. ولفتت القناة إلى أنه بالنسبة لإسرائيل، تمثل هذه الخطوة فرصة أمنية مهمة، إلى جانب المخاطر الاستراتيجية التي لا تزال تُخيم عليها.
وفي سياق متصل، كان وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني قد بحث مع وفد إسرائيلي في باريس خفض التصعيد وعدم التدخل بالشأن السوري، والتوصل إلى تفاهمات تدعم الاستقرار في المنطقة.
وقالت وكالة الأنباء السورية الرسمية "سانا" حينها إن النقاشات تركزت أيضًا على "مراقبة وقف إطلاق النار في محافظة السويداء، وإعادة تفعيل اتفاق 1974"، مشيرة إلى أن هذه النقاشات تجري بوساطة أميركية، في إطار الجهود الدبلوماسية لتعزيز الأمن والاستقرار في سوريا والحفاظ على وحدة أراضيها.
وتُعد الأوضاع في السويداء محفزا رئيسيا لهذا التقارب، حيث شهدت المحافظة مؤخرا أعمال عنف بين فصائل درزية وعشائر بدوية، تصاعدت إلى مواجهات دامية أسفرت عن مقتل أكثر من 1600 شخص، بينهم مدنيون دروز. كما تخللتها انتهاكات وعمليات إعدام ميدانية، وهو ما دفع إسرائيل لشن ضربات جوية بالقرب من القصر الرئاسي و مقر هيئة الأركان في دمشق بذريعة حماية الأقلية الدرزية. ورغم التوصل إلى اتفاق تهدئة برعاية أميركية، إلا أن الوضع الأمني لا يزال هشا، وسط انتقادات من الأهالي لدمشق بشن حصار إنساني، وهو ما تنفيه الأخيرة.
وتواجه سوريا الجديدة تحديات جسيمة، فإسرائيل تحتل منذ أشهر جبل الشيخ وشريطا أمنيا في الجنوب، وهو واقع يجعل أي اتفاق يهدف إلى استقرار الحدود وإعادة الأراضي السورية المحتلة أولوية قصوى بالنسبة لدمشق.
من جهة أخرى، يرى كل من واشنطن وتل أبيب أن هذا الاتفاق فرصة لإبعاد سوريا عن المحور الإيراني، وهو ما يمثل مكسبا استراتيجيا كبيرا لإسرائيل، حيث يقلل من التهديدات القادمة من حدودها الشمالية.
ولم تقتصر تصريحات الشرع على العلاقات مع إسرائيل، بل امتدت لتشمل مواقف واضحة تعكس توجهاته السياسية الجديدة، فقد رفض أي شكل من أشكال الانفصال أو سياسة "المحاصصة"، مؤكدًا على ضرورة وحدة سوريا ورفضه لوجود أي سلاح خارج سلطة الدولة.
واعتبر الشرع أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع القائد العام لـ"قوات سوريا الديمقراطية"، مظلوم عبدي، في العاشر من مارس الماضي، هو الأرضية التي يُبنى عليها أي حوار، مشيرا إلى أن هذا الاتفاق يحظى بدعم داخلي وخارجي، مما يبرز سعيه الحثيث للسيطرة على كافة الأراضي السورية وتقوية سلطة الدولة المركزية بعد سنوات طويلة من الانقسام والفوضى.
ورغم إبرام اتفاق لدمج المؤسسات المدنية والعسكرية، إلا أن العلاقات بين دمشق و"قوات سوريا الديمقراطية" لا تزال متوترة وبنوده لم تُطبق بعد، بسبب خلافات بين الطرفين، حيث تصر "قوات سوريا الديمقراطية" على أن يكون الاندماج ككتلة عسكرية واحدة داخل وزارة الدفاع، بينما تتمسك دمشق ومن خلفها أنقرة بأن يكون اندماج المقاتلين بشكل فردي.
هذا الخلاف أدى إلى وصول العلاقات بين الطرفين إلى طريق مسدود، تجلى في إلغاء مؤتمر باريس الذي كان مقررا الشهر الحالي، والذي كان يُفترض أن يعيد إطلاق الحوار. لكن التدخلات الإقليمية، وخاصة التركية، أجهضت تلك الجهود، حيث تمارس أنقرة ضغوطا كبيرة على دمشق لعدم تقديم أي تنازلات قد تعزز من وضع الأكراد.
وبالنسبة لتركيا، تُعد وحدات حماية الشعب الكردية امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، وهو ما يجعل من أي مكسب سياسي أو عسكري لـ"قوات سوريا الديمقراطية" تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
وفي خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس السوري خلال لقائه بوفد إعلامي عربي أنه "تنازل عن الجراح التي سببها حزب الله لسوريا ولم يختر المضي في القتال بعد تحرير دمشق".
وأعرب عن تطلعه لكتابة تاريخ جديد للعلاقات السورية اللبنانية على أساس "دولة إلى دولة" تقوم على معالجات اقتصادية واستقرار ومصلحة مشتركة بعيدًا عن التدخلات والسياسات التي أساءت للطرفين في السابق.
وهذه التصريحات، التي وصف فيها "الاستثمار السوري في الاستقطاب المذهبي والسياسة في لبنان" بأنه "خطأ كبير بحق البلدين لا ينبغي أن يتكرر"، تمثل قطيعة مع سياسات النظام السابق.
ويحمل هذا الموقف رسالة واضحة لحزب الله، الذي كان من أبرز الداعمين لرئيس النظام السابق بشار الأسد وانخرط في الحرب الأهلية السورية، بأن مرحلة الدعم غير المشروط قد انتهت، وأن دمشق تسعى الآن لعلاقات براغماتية مع بيروت بعيدا عن أي تدخلات سابقة.
وتابع الشرع أن "لبنان عانى من سياسات الأسدين (حافظ وبشار الأسد)، والبلدان بحاجة إلى كتابة تاريخ جديد وتحرير الذاكرة من الإرث الماضي"، مؤكدا أن "سوريا كما أراها اليوم هي فرصة كبيرة للبنان"، وداعيا "اللبنانيين للاستفادة من نهضتها وإلا فإنهم سيخسرون الكثير".
ويحمل هذا الموقف رسالة واضحة لحزب الله بأن مرحلة الدعم غير المشروط قد انتهت، وأن دمشق تسعى لعلاقات براغماتية مع بيروت، بعيدا عن أي تدخلات سابقة.
وتعكس هذه التحركات مرحلة جديدة من إعادة ترتيب الأوراق في الشرق الأوسط، حيث تسعى القوى الإقليمية إلى بناء توازنات جديدة في ظل المتغيرات الجيوسياسية، في الوقت الذي يأمل فيه السوريون أن تؤدي هذه الخطوات إلى استقرار دائم في البلاد، فإنها قد تزيد من تعقيد المشهد في منطقة لا تعرف الهدوء.