السودان وسد النهضة: من التبعية إلى الشراكة الإستراتيجية

أقصر الطرق لتحقيق الأمن المائي لم يعد في التمسك بالخطابات التقليدية والتلويح بالتهديد وإنما في بناء شراكات جديدة مع دول الحوض وتعزيز التعاون مع السودان في مجالات الزراعة والمياه.
الاثنين 2025/09/15
شريان حياة مشترك

بحضور عدد من الرؤساء وكبار المسؤولين الأفارقة والدوليين، افتتحت إثيوبيا في التاسع من سبتمبر 2025 سدّ النهضة، المشروع العملاق الذي أثار جدلًا واسعًا وصراعات استمرت أكثر من عقد. ومع افتتاحه رسميًا، أصبح السدّ حقيقة قائمة تغيّر معادلة المياه في المنطقة بأسرها.

بالنسبة للسودان، يفرض هذا التطور مراجعة جذرية للمواقف والسياسات. فسدّ النهضة ليس مجرد مشروع إثيوبي داخلي، بل هو مشروع إقليمي ذو أثر مباشر على السودان. ووفقًا لإجماع واسع بين خبراء المياه والسدود والهندسة والجيولوجيا، سيسهم السد في تنظيم تدفق مياه النيل الأزرق على مدار العام، بما يقلل من مخاطر الفيضانات المدمرة، ويمكّن من إدارة أفضل لشبكات الري، ويزيد إنتاج الطاقة الكهرومائية من السدود السودانية القائمة. كما يفتح الباب أمام فرص أوسع للملاحة النهرية وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في النقل النهري والمشاريع السياحية المرتبطة به.

وتتجلى فوائد السد أيضًا في حجز كميات كبيرة من الطمي والمواد الضارة التي يجرفها النهر، فضلًا عن تمكين السودان من شراء الكهرباء المولَّدة من سد النهضة بأسعار تقل كثيرًا عن تكلفة التوليد المحلي. ومن المرجح أن تؤدي التغيرات المناخية الناجمة عن بحيرة السد إلى زيادة معدلات الأمطار في المناطق القريبة من الحدود الإثيوبية، بما يترتب عليه اعتدال الطقس، وتوسّع الرقعة الزراعية والغابات، وتنمية قطاع الثروة الحيوانية.

أما الفائدة الكبرى التي يجنيها السودان من سد النهضة فهي انتظام تدفق المياه طوال العام، وهو ما يحمي البلاد من تداعيات انخفاض سريان النيل الأزرق ونهر النيل في مواسم الجفاف. هذا الانتظام يتيح التوسع في الزراعة المروية ورفع عدد الدورات الزراعية من دورة واحدة إلى دورتين أو ثلاث سنويًا، الأمر الذي يمكّن السودان من استرداد نحو 6.5 مليار متر مكعب من حصته في مياه النيل، التي ظلت تُصرف لمصر مجانًا طوال أكثر من ستة عقود.

◄ الفائدة التي يجنيها السودان هي انتظام تدفق المياه طوال العام وهو ما يحميه من تداعيات انخفاض سريان النيل الأزرق ونهر النيل في مواسم الجفاف

في المقابل، فإن أي خلل في سد النهضة أو استهداف له سيكون كارثة حقيقية على السودان قبل أي طرف آخر، نظرًا لكونه الدولة الأكثر عرضة للمخاطر المباشرة، بينما تظل مصر أقل عرضة بسبب بعدها الجغرافي والحماية التي يوفرها السد العالي. ومن ثمّ، تقتضي المصلحة العليا للسودان بناء شراكة إستراتيجية مع إثيوبيا تقوم على التعاون والتنسيق في متابعة حالة السد وأعمال الصيانة الدورية، وإنشاء أنظمة للإنذار المبكر، وتبادل المعلومات الفنية لضمان سلامة سد الروصيرص القريب من سد النهضة. كما يتوجب على السودان منع استخدام أراضيه لأي نشاط عدائي يستهدف السد أو الأراضي الإثيوبية، وتعزيز التعاون مع دول حوض النيل، وإعادة النظر في موقفه من اتفاقية عنتيبي.

وعلى هذا الأساس، من المؤسف أن نرى بعض القيادات السودانية، ولاسيما العسكرية منها، تدمن التفريط في مصالح السودان لصالح تحقيق مكاسب آنية، ومقابل التمسك بالسلطة وإطالة أمد الحكم العسكري.

أما مصر، فإن اكتمال سد النهضة وافتتاحه يفرض عليها إعادة صياغة سياساتها المائية. فقد أثبتت التجربة أن الاتفاقيات الاستعمارية (1902 و1929)، إضافة إلى اتفاقية 1959 التي وقّعها الحكم العسكري السوداني الأول، لم تمنع إثيوبيا من إنجاز مشروعها وفرض الأمر الواقع. كما لم تمنع دول المنبع الأخرى من المصادقة على اتفاقية عنتيبي والمطالبة بإعادة النظر في الاتفاقيات القديمة وتأسيس مبادئ تعاون مائي أكثر عدالة وإنصافًا. وعليه، فإن أقصر الطرق لتحقيق الأمن المائي المصري لم يعد في التمسك بالخطابات التقليدية أو التلويح بالتهديد، وإنما في بناء شراكات جديدة مع دول الحوض، وتعزيز التعاون مع السودان في مجالات الزراعة والمياه، والانخراط في إستراتيجيات أكثر واقعية، مثل الاستثمار في مشاريع حصاد المياه، وتحلية مياه البحر، وتوسيع إعادة الاستخدام، ومكافحة الهدر والتصحر.

آن الأوان لتدرك مصر والسودان وبقية دول حوض النيل أن نهر النيل ليس ساحة صراع صفري، بل شريان حياة مشترك ينبغي أن يُدار بروح الشراكة لا الخصومة. ومصلحة الجميع تقتضي تحويل النيل من مصدر نزاع إلى قاعدة للتعاون والتنمية المشتركة.

9