الخطأ الإستراتيجي: كيف كشف هجوم إسرائيل على قطر حدود الهيمنة الأميركية في الخليج

من المرجح أن تتميز الخارطة الجيوسياسية الجديدة التي ستظهر بصورة خليج أكثر استقلالية وحزما، قادر على تحقيق التوازن بين القوى العالمية المتنافسة مع الحفاظ على استقلالية إستراتيجية أكبر.
الخميس 2025/09/18
خطأ بألف خطأ

يمثل الهجوم الجوي الإسرائيلي على قادة حماس في قطر في 9 أيلول – سبتمبر 2025 لحظة فاصلة قد تعيد تشكيل البنية الجيوسياسية للشرق الأوسط بشكل جذري. ما بدا أنه عملية عسكرية تكتيكية تستهدف القادة الفلسطينيين تطور إلى خطأ إستراتيجي في التقدير ذي أبعاد تاريخية، كشف عن ثقة إسرائيل المفرطة وتراجع مصداقية الضمانات الأمنية الأميركية في منطقة الخليج.

في غضون ساعات من الهجوم غير المسبوق على الدوحة، نجحت قطر في تنظيم واحدة من أهم مظاهر التضامن العربي الإسلامي منذ عقود. جمعت القمة الطارئة التي عقدت في 15 أيلول – سبتمبر قادة يمثلون أكثر من 1.5 مليار مسلم، بما في ذلك ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان. أظهرت هذه التعبئة السريعة للقوى الإقليمية أن نتنياهو وترامب قد قللا بشكل جوهري من شأن النفوذ الدبلوماسي لقطر وعمق القلق الذي ستثيره أفعالهما في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وهو سوء تقدير قد تتبين تداعياته غير المنظورة في المستقبل.

حطم الهجوم التصور الذي تم بناؤه بعناية عن الخليج باعتباره ملاذا مصونا تحميه القوة العسكرية الأميركية. تستضيف قطر قاعدة العُديد الجوية، أكبر منشأة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط ومقر القيادة المركزية الأميركية، لكن هذا الوجود لم يكن كافيا لردع العدوان الإسرائيلي. لا يمكن المبالغة في تقدير الأثر النفسي لهذا الهجوم، فلأول مرة منذ غزو العراق للكويت في عام 1990، هاجمت قوة أجنبية بشكل مباشر دولة عضوا في مجلس التعاون الخليجي.

النتيجة الأعمق لضربة الدوحة هي تآكل مصداقية الولايات المتحدة كشريك أمني موثوق وقد أبرز رد الرئيس ترامب عجز واشنطن عن السيطرة على حليفها الرئيسي في الشرق الأوسط

تكشف تفاصيل العملية عن مدى تطور الهجوم الإسرائيلي: أطلقت ثماني طائرات مقاتلة من طراز F – 15 وأربع طائرات مقاتلة من طراز F – 35 صواريخ جو – أرض من البحر الأحمر، وحلقت فوق المجال الجوي السعودي لضرب مجمع سكني في حي اللقيفية في الدوحة. أسفر الهجوم عن مقتل ستة أشخاص، من بينهم ضابط في قوات الأمن الداخلي القطرية، وهو أول ضحية عربية خليجية تسبب فيها هجوم إسرائيلي منذ عقود. والأهم من ذلك، أن العملية فشلت في القضاء على قادة حماس البارزين، لكنها نجحت في تقويض الأساس الكامل للدبلوماسية الإقليمية التي توسطت فيها الولايات المتحدة نفسها.

كانت النتيجة الأعمق لضربة الدوحة هي تآكل مصداقية الولايات المتحدة كشريك أمني موثوق. وقد أبرز رد الرئيس ترامب، الذي نأى بنفسه عن قرار نتنياهو واكتفى بتوجيه انتقادات خفيفة، عجز واشنطن عن السيطرة على حليفها الرئيسي في الشرق الأوسط. وهو أمر لا يعقل. كما أن ادعاء المسؤولين الأميركيين بأنهم لم يتلقوا سوى إشعار مسبق بدقائق معدودة، وهو ما لا يكفي لتحذير قطر، أكد انهيار التنسيق بين الحلفاء.

هذه الفجوة في المصداقية تجبر دول الخليج على إعادة تقييم شراكاتها الأمنية بشكل جذري. وقد لخص المعلق السعودي بدر السيف المشاعر السائدة في المنطقة بقوله “من الصعب على الولايات المتحدة أن تدعمنا في هذه المرحلة. علينا البحث عن طرق بديلة”. كان رد فعل الإمارات الفوري؛ زيارة الرئيس محمد بن زايد إلى الدوحة في غضون 24 ساعة واستدعاء نائب سفير إسرائيل، إشارة إلى إعادة ترتيب الأولويات التي تضع في المقدمة تضامن دول الخليج قبل العلاقات مع إسرائيل. 

كانت النتيجة الملموسة الأكثر وضوحا للتعبئة الدبلوماسية القطرية هي تفعيل آلية الدفاع الجماعي لمجلس التعاون الخليجي. تنص المادة 2 من اتفاقية الدفاع المشترك على أن “أي هجوم على أحد الأعضاء هو هجوم على الجميع”، وقد استند قادة الخليج الآن إلى هذا البند لأول مرة منذ تأسيس المنظمة. أعلن مجلس التعاون الخليجي عن عقد اجتماعات عاجلة لمجلس الدفاع المشترك واللجنة العسكرية العليا من أجل “تقييم المواقف الدفاعية وتفعيل آليات الدفاع المشترك وقدرات الردع الخليجية”.  

ويمثل هذا تحولا إستراتيجيا من الترتيبات الأمنية الثنائية الفردية مع الولايات المتحدة نحو الدفاع الإقليمي الجماعي. وتناقش دول الخليج الآن بجدية تعزيز التعاون مع الصين وروسيا وتركيا كبدائل للاعتماد الحصري على الحماية الأميركية. توفر مبادرة الحزام والطريق الصينية و”شراكاتها الإستراتيجية الشاملة” مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أطرا جاهزة لمشاركة أعمق. 

وترد في هذا السياق مقارنة مفيدة بغزو العراق للكويت عام 1990. مثل صدام حسين، يبدو أن نتنياهو أخطأ في تقدير رد الفعل الإقليمي على مهاجمة دولة خليجية صغيرة. ومع ذلك، هناك اختلافات جوهرية: في حين أن غزو الكويت أدى إلى تدخل عسكري بقيادة الولايات المتحدة، فإن التحدي الذي تواجهه قطر يتطلب ردود فعل دبلوماسية واقتصادية تستفيد من المزايا النسبية لدول الخليج. 

تمتلك قطر وحلفاؤها ما يقرب من 4 تريليونات دولار من أصول صناديق الثروة السيادية وسيطرة كبيرة على أسواق الطاقة العالمية. على عكس الكويت في عام 1990، تمتلك دول الخليج الحديثة شراكات وأدوات مالية متنوعة توفر بدائل عن الانتقام العسكري. يمثل التهديد بالضغط الاقتصادي من خلال سحب الاستثمارات من الأصول المرتبطة بإسرائيل أو الولايات المتحدة شكلا جديدا من أشكال الردع لم يتوقعه نتنياهو.

حضور الرئيس أردوغان في قمة الدوحة وتعاون تركيا المتنامي في مجال الدفاع مع دول الخليج يوفران سبلا لتقليل الاعتماد على الضمانات الأمنية الأميركية

وقد أدى هجوم الدوحة إلى تعقيد الجهود الرامية إلى توسيع اتفاقيات أبراهام بشكل كبير. إن حقيقة أن قادة الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب، وجميعهم شركاء في التطبيع، حضروا قمة الدوحة ولكنهم أرسلوا ممثلين بدلا من رؤساء الدول تكشف عن التوازن الدقيق الذي يجب على هذه الدول أن تتعامل معه الآن. يوضح قرار الإمارات العربية المتحدة بحظر مشاركة شركات الدفاع الإسرائيلية في معرض دبي الجوي كيف أن المخاوف الأمنية تتجاوز المصالح التجارية.

إن تحذير الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من أن الإجراءات الإسرائيلية تهدد “اتفاقيات السلام القائمة” يشير إلى احتمال انهيار عقود من الدبلوماسية. وقد كانت الذكرى الخامسة لاتفاقيات أبراهام، التي تزامنت مع قمة الدوحة، بمثابة تذكير صارخ بمدى السرعة التي يمكن أن تتغير بها الديناميات الإقليمية.

ولعل أهم نتيجة طويلة الأمد ستكون تسارع انخراط دول الخليج مع قوى غير غربية. فقد أظهرت المناورات البحرية “حزام الأمن البحري” التي جرت في مارس 2025 بمشاركة إيران وروسيا والصين في مياه الخليج إمكانية وجود هياكل أمنية بديلة. ويوفر اتفاق التعاون الإستراتيجي بين إيران وروسيا لمدة 20 عاما والشراكة بين الصين وإيران لمدة 25 عاما نموذجين لدول الخليج التي تسعى إلى تنويع علاقاتها الدولية.

يمثل دور تركيا المتنامي كوسيط بين دول الخليج والقوى البديلة بعدا آخر من أبعاد هذا التوازن. إن حضور الرئيس أردوغان في قمة الدوحة وتعاون تركيا المتنامي في مجال الدفاع مع دول الخليج يوفران سبلا لتقليل الاعتماد على الضمانات الأمنية الأميركية. 

والخلاصة أن قرار نتنياهو وترامب مهاجمة قطر سيكون من شأنه تسريع الانتقال نحو شرق أوسط متعدد الأقطاب. فمن خلال خطأ التقليل من قدرة قطر على حشد التضامن الإقليمي والمبالغة في تقدير التأثير الرادع للحماية الأميركية، خلق ترامب ونتنياهو، دون دراية، ظروفا تساعد على ظهور مراكز قوة بديلة. قد يكون التغيير الهادئ ولكن العميق في بنية الأمن الخليجي، من الترتيبات الثنائية التي تركز على الولايات المتحدة إلى الآليات الإقليمية الجماعية التي تكملها شراكات دولية متنوعة، هو الإرث الأكثر ديمومة لهذا الهجوم.

ومن المرجح أن تتميز الخارطة الجيوسياسية الجديدة التي ستظهر، بصورة خليج أكثر استقلالية وحزما، قادر على تحقيق التوازن بين القوى العالمية المتنافسة مع الحفاظ على استقلالية إستراتيجية أكبر. وهذا لا يمثل مجرد انتكاسة تكتيكية للسياسة الإسرائيلية، بل تحديا جوهريا للنظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والذي حدد الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط منذ نهاية الحرب الباردة.

6