الحمائية التجارية الأميركية كاختبار للاقتصاد التونسي
في خطوة تحمل بصمة دونالد ترامب المعهودة، قررت الإدارة الأميركية ضمن سياسة الحمائية التجارية فرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المئة على عدد من المنتجات التونسية، تدخل حيّز التنفيذ بداية من أغسطس المقبل. القرار ليس مجرد رقم في السجلات، بل هو رسالة سياسية وتجارية قد تكون قاسية في توقيت بالغ الحساسية بالنسبة للاقتصاد التونسي المنهك.
بين تساؤلات الداخل حول دوافع القرار، وتحليلات الخارج عن انعكاساته، تبرز الحاجة إلى فهم أعمق لما حدث، والأهم، إلى كيفية التصرف إزاءه في ظل كفاح داخلي لإصلاح وضع هش لا تقوم هياكل الدولة ومسؤولوها بالكثير لتنفيذ أجندة القيادة السياسية.
الأمر اللافت هو هل أن الولايات المتحدة محتاجة فعلا إلى بعض الملايين من الدولارات من تونس، فيما حيتان التجارة العالمية يسبحون، رغم الأزمات، بأريحية شديدة وأفضل من تونس في عالم العولمة والحروب والتوترات التجارية.
ليس مفاجئا أن يكون ترامب العنيد وراء القرار، فالرجل لا يخفي عداءه العلني لاتفاقات التبادل الحر، ولا إيمانه بالرسوم كوسيلة “تأديب” وابتزاز اقتصادي لتحقيق برنامجه الانتخابي “أميركا أولا” عبر ما أسماه بـ”يوم التحرير” التجاري.
◄ تونس، رغم ما تمر به من ظروف صعبة، لا تزال قادرة على قلب المعادلة، إن هي قررت أن تتحول من مجرد متلق سلبي للقرارات إلى فاعل يعرف كيف يحمي حدوده الاقتصادية
ما يثير القلق في الحالة التونسية هو أن البلاد لم تكن في مرمى اهتمام الإدارات الأميركية من قبل، لا تجاريا ولا إستراتيجيا، بل كانت تمر تحت الرادار. أما اليوم، فها هي تجد نفسها مشمولة بسياسات عقابية تُفرض عادة على اقتصادات كبرى أو خصوم إستراتيجيين.
يمكن قراءة الخطوة ضمن منطق ترامب المعروف: إذا كان الميزان التجاري لا يخدم الولايات المتحدة، فعلى الطرف المقابل أن يدفع الثمن.
وإذا كانت السوق التونسية تستفيد من الصادرات دون أن تقدم تنازلات كافية، حيث لدى البلد فائض تجاري بقيمة 600 مليون دولار، من حجم مبادلات يبلغ قرابة 1.4 مليار دولار سنويا، فإن الرسوم هي الوسيلة الأسرع “لإعادة التوازن”، حتى ولو كان التوازن وهميا.
للعلم، فإن العلاقة التجارية بين البلدين تحكمها البراغماتية، بدليل أن الأميركيين، قبل نزوة ترامب لطالما دأبوا على مساعد التونسيين، حيث يفرضون صفر رسوم على منتجاتهم، مقابل ما بين 50 و55 في المئة تفرضها تونس على السلع الأميركية وفق اتفاق قديم.
في كل الأحوال، لا يبدو أن تونس تمتلك هامشا كبيرا للمناورة في مواجهة هذا النوع من الإجراءات، خصوصا أنها لا تملك أوراق ضغط مؤثرة ولا موقعا محوريا في السياسة الخارجية الأميركية.
بلا شك تداعيات القرار ستكون مؤلمة، فالعديد من القطاعات التصديرية التونسية، خاصة الصناعات الغذائية (زيت الزيتون والتمور) وقطاعي الجلود والنسيح، ستتلقى ضربة مباشرة، ليس فقط بفعل تراجع المبيعات، بل من خلال فقدان القدرة التنافسية في سوق ضخمة كالولايات المتحدة. وكل ذلك يأتي في وقت تعاني فيه تونس من ارتفاع في كلفة الإنتاج، وصعوبات في النفاذ إلى أسواق جديدة.
الرسوم الأميركية لا تهدد فقط الصادرات، بل تُربك أيضا ثقة المستثمرين، وتُرسل إشارات سلبية إلى باقي الشركاء التجاريين، مما قد يؤدي إلى سلسلة ردود فعل يصعب السيطرة عليها. لكن الخضوع ليس خيارا.
يجب أن تتحرك تونس بسرعة وعلى أكثر من مستوى. أولا، لا بد من تفعيل قنوات التفاوض الدبلوماسي، حتى وإن كان احتمال التراجع الأميركي ضعيفا. من الضروري إيصال رسالة مفادها أن تونس ليست خصما تجاريا، وأن حجم المبادلات لا يبرر هذه القسوة الجمركية.
ثانيا، يمكن اللجوء إلى المسارات القانونية عبر منظمة التجارة العالمية، حتى وإن كانت إجراءاتها بطيئة، لأن تسجيل الاعتراض ولو رمزيا يمنح تونس سندا في معارك مستقبلية. لكن هذه الفرضية قد تبدو ضعيفة.
◄ الولايات المتحدة محتاجة فعلا إلى بعض الملايين من الدولارات من تونس، فيما حيتان التجارة العالمية يسبحون، رغم الأزمات، بأريحية شديدة وأفضل من تونس
أما على المستوى الإستراتيجي، فعلى تونس أن تعيد ترتيب أولوياتها التجارية، لأن الاعتماد المفرط على الأسواق غير المستقرة أو الخاضعة للابتزاز السياسي لم يعد مقبولا. المطلوب هو تنويع الشركاء، والانفتاح أكثر على أفريقيا وآسيا، وتعزيز الشراكات الإقليمية التي تضمن قدرا من التوازن.
في المقابل، يجب أن ترافق هذه السياسة رؤية اقتصادية داخلية تُعيد الاعتبار للإنتاج المحلي وتدعم القطاعات الموجهة للتصدير، مع التركيز على الجودة والتكنولوجيا والمعايير البيئية، لتصنع تونس لنفسها مكانة في الأسواق التي تقيّم الجودة أكثر من السعر.
ولأن الأزمة لا تأتي وحدها، فإن هذه الرسوم تطرح من جديد سؤال السيادة الاقتصادية. هل تونس قادرة فعلا على حماية مصالحها حين تهب رياح التجارة العالمية؟ وهل تمتلك ما يكفي من الوسائل للرد؟ الواقع يقول لا. لكن هذا يجب أن يكون محفزا لا عذرا.
كتونسيين نجد أنفسنا مجبرين على تقليب الصفحات وإعادة بناء مفهوم الأمن الاقتصادي، ليس من خلال الشعارات، بل عبر السياسات الصناعية، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتطوير أدوات الدولة التفاوضية والتجارية.
إن رسوم ترامب ليست نهاية العالم، لكنها إنذار مبكر بأن المرحلة القادمة من العلاقات الدولية ستكون قاسية، وأن من لا يُحسن الدفاع عن مصالحه سيتحول إلى ضحية دائمة.
تونس، رغم ما تمر به من ظروف صعبة، لا تزال قادرة على قلب المعادلة، إن هي قررت أن تتحول من مجرد متلق سلبي للقرارات إلى فاعل يعرف كيف يحمي حدوده الاقتصادية. فالعالم لم يعد يحترم الدول الفقيرة، بل تلك التي تعرف كيف تُدير فقرها بحكمة وعناد.