البرلمان السوري الجديد يرسم ملامح إعادة الإعمار أكثر مما يعيد تعريف التمثيل السياسي
دمشق - بعد ما يقارب العام على نهاية حكم بشار الأسد، يبرز البرلمان السوري الجديد بقيادة الرئيس أحمد الشرع كواحدة من أبرز مؤسسات المرحلة الانتقالية، لكنه يظهر بوضوح أن أولويته ليست إعادة تعريف التمثيل السياسي بقدر ما هي رسم خارطة لإدارة إعادة الإعمار المنتظرة.
وبينما يتم تصويره كخطوة تحول سياسي، يرى مراقبون أن الغرض الأساسي منه هو تنظيم الاقتصاد وتوفير إطار قانوني للمشاريع الكبرى، أكثر من كونه منصة للتمثيل السياسي.
وفي الخامس من أكتوبر 2025، جرى انتخاب 119 نائبًا من أصل 210 عبر نظام غير مباشر، فيما سيعيّن الرئيس أحمد الشرع 70 نائبًا إضافيين بمرسوم رئاسي، بينما بقيت 21 مقعدًا شاغرة في مناطق الشمال الكردي ومحافظة السويداء، حيث تعذّر إجراء الانتخابات.
وتعتمد العملية برمتها على نحو ستة آلاف مندوب اختيروا مسبقًا من لجنة عليا شكلتها الرئاسة، ما دفع مراقبين إلى وصف العملية بأنها “اختيار منظم.”
الرئيس السوري أحمد الشرع يريد بناء اقتصاد قابل للحياة حتى لو كان الثمن تأجيل الإصلاح السياسي
وجاء البرلمان الجديد في ظل خلفية تاريخية وسياسية معقدة، إذ سبقت هذه التجربة أكثر من عقد على النزاع السوري، الذي تسبب في نزوح الملايين من السوريين داخليًا وخارجيًا وفقدان السجلات المدنية، ما جعل تنظيم انتخابات مباشرة شبه مستحيل.
وفي هذا السياق، يُنظر إلى البرلمان كواجهة سياسية مؤقتة تسمح للسلطة باستعادة صورة المؤسسات واستقرارها أمام المجتمع الدولي، مع إبقاء السلطة التنفيذية قوية ومسيطرة على القرارات الأساسية.
ويرى المحلل مروان البحراوي في تقرير نشرته مجلة “مودرن بوليسي” أن أهمية البرلمان الجديد تتجاوز التمثيل السياسي، فهو يرتبط مباشرة بخطط الدولة لإعادة الإعمار، وهو ما يفسر التركيز الإعلامي على صور الجلسات والتغطيات الرسمية المكثفة.
وسيعتبر البرلمان المنبر الرئيسي لإقرار القوانين التي تنظم الموازنات العامة والمشتريات الكبرى والمشاريع الاستثمارية، وهو الدور الذي تمنحه المادة 30 من الإعلان الدستوري لعام 2025.
وتمنح هذه المادة المجلس صلاحيات واسعة تشمل اعتماد الموازنات والمصادقة على الاتفاقيات الدولية، وتنظيم المشتريات العامة، وهو ما يجعله أداة محورية في توزيع العقود والمشاريع الكبرى، وفي تحديد الفئات المستفيدة والمقصية من عملية إعادة الإعمار.
ويشير بنيامين فيف من مؤسسة “كرم شعار للاستشارات” إلى أن النظام يريد إرسال رسالة للمانحين والمستثمرين بأن سوريا دخلت مرحلة الاستقرار المؤسساتي، لكن غياب الشفافية في المشتريات والمساءلة يجعل أي استثمار محفوفًا بالمخاطر وقد يعيد إنتاج شبكات المحسوبية القديمة التي كانت تهيمن على الاقتصاد السوري لعقود طويلة.
وتؤكد تقارير أخرى، مثل مؤسسة “كارنيغي للسلام الدولي”، أن تسريع مشاريع الإعمار دون رقابة مستقلة قد يحوّل البرلمان إلى غطاء تشريعي لتوزيع النفوذ الاقتصادي بين النخب القريبة من السلطة، بدل أن يكون ضامنًا للشفافية والمساءلة.
وعلى الصعيد الاجتماعي، تستمر فجوة التمثيل السياسي والاجتماعي، فالنساء والأقليات لا تزالان حاضرتين بنسبة ضئيلة جدًا، ما يضعف الثقة الشعبية بالمؤسسات ويجعل أي مشروع إعادة إعمار عرضة للانتقادات من قبل المجتمعات المحلية التي شعرت بالتهميش، خصوصًا في المناطق التي لم تُجر فيها الانتخابات.

وتقول رنا محسن، الباحثة في مركز “الشرق للدراسات”، إن البرلمان الحالي ليس مساحة للتغيير السياسي بقدر ما هو أداة لإدارة المرحلة الاقتصادية الانتقالية، إذ يريد الشرع بناء اقتصاد قابل للحياة حتى لو كان الثمن تأجيل الإصلاح السياسي.
ويأتي البرلمان الجديد أيضًا في سياق دولي حساس، إذ تراقب القوى الإقليمية والدولية استقرار سوريا قبل تقديم مساعدات واستثمارات ضخمة، وهو ما يعطي البرلمان بعدًا إستراتيجيًا يتعلق بطمأنة المانحين والمستثمرين أكثر من كونه يعكس إرادة الشعب.
ويعكس هذا التوازن بين الضغوط الداخلية والرغبة في جذب الاستثمارات إستراتيجية السلطة في الانتقال من مرحلة الحرب إلى مرحلة إعادة الإعمار، دون المساس ببنية السلطة القائمة، وهو ما يفسر التركيز على القوانين الاقتصادية والمشاريع الكبرى بدل الإصلاح السياسي العميق.
ويشير المراقبون إلى أن الأسابيع القادمة ستكشف طبيعة البرلمان من خلال ثلاثة اختبارات رئيسية.
• أولها تعيين ثلث النواب من قبل الرئيس: هل ستعكس هذه التعيينات التنوع الاجتماعي وتمنح تمثيلًا للأقليات والنساء، أم ستصبّ في خدمة الولاءات السياسية؟
• ثانيها سن قوانين الشفافية والمشتريات العامة: هل ستضمن هذه القوانين رقابة فعالة، أم ستسرع العقود والمشاريع للنخب المقربة من السلطة؟
• ثالثها ملء المقاعد الشاغرة في مناطق الشمال والجنوب: اختبار لقدرة النظام على إشراك المناطق المهمشة وتوسيع التمثيل، وهو مؤشر مباشر على جدية البرلمان في تعزيز المشاركة الشعبية.
وتاريخيًا، تعكس هذه الاختبارات مدى قدرة المؤسسات السورية على تجاوز إرث الصراع الطويل، حيث ساهم النزاع في تفكك الدولة وتهجير السكان وخلق فجوات كبيرة في الإدارة المحلية.
وبالتالي، فإن أداء البرلمان ستكون له تداعيات مباشرة على قدرة الدولة على إعادة بناء الثقة مع المواطنين، خصوصًا في المناطق الأكثر تضررًا من الحرب.
وعلى الصعيد الاقتصادي، يشكل البرلمان بوابة لإدارة الموارد واستقطاب الاستثمارات العربية والدولية، لكنه في الوقت نفسه أداة محتملة لإعادة إنتاج شبكات المصالح القديمة التي تسيطر على الاقتصاد.
ويؤكد خبراء أن سرعة إقرار مشاريع الإعمار من دون رقابة فعالة ستجعل البرلمان أداة لتوزيع النفوذ والموارد بدل أن يكون جهة رقابية مستقلة، وهو ما قد يؤدي إلى إعادة إنتاج الاحتكارات الاقتصادية وعدم المساواة في توزيع فرص الإعمار.
كما أن البرلمان الجديد يمثل اختبارًا لكيفية إدارة المرحلة الانتقالية على صعيد السلطة والسياسة، فهو يجمع بين بعد داخلي مرتبط بالسيطرة على القرار، وبين بعد خارجي يتعلق بإقناع المجتمع الدولي والمانحين بوجود مؤسسات قادرة على إدارة المشاريع الكبرى.

ويجعل هذا المزيج بين الضغوط الداخلية والخارجية البرلمان أكثر قربًا إلى أداة اقتصادية وإدارية منه إلى منصة تمثيلية حقيقية، ويعكس أن السلطة السورية تسعى أولاً إلى تحقيق استقرار اقتصادي مؤسسي قبل الانخراط في تغييرات سياسية عميقة.
ولن يقاس نجاح البرلمان بعدد الجلسات أو الخطابات الرسمية، بل بمدى قدرته على تعزيز الشفافية، والتوزيع العادل للمشاريع، وبناء ثقة مجتمعية حقيقية.
وسيحدد الفارق بين برلمان يعمل لصالح مصلحة عامة وبرلمان يغطي على النفوذ والمصالح الخاصة شكل المرحلة القادمة في سوريا.
وفي غياب مساءلة فعلية وآليات رقابية مستقلة، قد يتحول البرلمان إلى مجرد واجهة لإعادة توزيع النفوذ بين نخبة محدودة، فيما تظل العملية السياسية الحقيقية والمشاركة الشعبية مؤجلة إلى مرحلة لاحقة.
وفي المجمل، يبدو أن البرلمان السوري الجديد أداة لإدارة مرحلة الإعمار وما بعد الحرب أكثر من كونه منصة لإعادة بناء التمثيل السياسي.
وتحاول سوريا الانتقال من زمن النزاع إلى زمن التنمية والاستثمار، لكنها تفعل ذلك ضمن بنية السلطة التقليدية التي حافظت على مركزية القرار.
وعليه، يبقى البرلمان واجهة لإعادة الإعمار، فيما يبقى بناء الثقة بين الدولة والمجتمع السوري مهمة لم تتحقق بعد، وستبقى محورًا للمتابعة المحلية والدولية في السنوات القادمة.