الاستثمار في النزاعات أم في المستقبل؟ سؤال إستراتيجي للعرب

المعضلة ليست اقتصادية فحسب، بل سياسية بالدرجة الأولى. استمرار النزاعات يعني أن الموارد ستظل موجهة إلى معالجة الأزمات بدل استباقها.
السبت 2025/10/25
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس عن حجم هذه العائدات، بل عن كيفية استثمارها

شهدت أسواق الطاقة العالمية في السنوات الأخيرة تقلبات حادة، لكن ما يلفت الانتباه هو الطفرة التي منحت الدول العربية المنتجة للنفط والغاز عائدات ضخمة أعادت إلى الأذهان دورات الازدهار السابقة. ووفقًا لتقارير منظمة أوبك، من المتوقع أن تنخفض إيرادات تصدير النفط الخام للمنظمة إلى 455 مليار دولار في عام 2025، مقارنة بمستويات أعلى في السنوات السابقة. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس عن حجم هذه العائدات، بل عن كيفية استثمارها: هل ستتحول إلى فرصة إستراتيجية لبناء اقتصاد متنوع ومستدام، أم ستتبدد كما تبددت عوائد طفرات سابقة في إنفاق قصير الأمد؟

من اليمن إلى السودان، ومن غزة إلى سوريا إلى العراق ولبنان، وصولا إلى ليبيا، تتكرر المعادلة نفسها: صراعات مسلحة تخلّف دمارًا واسعًا، وتفرض على الدول إنفاق مئات المليارات من الدولارات لتغذية الحروب، وإنفاق مئات أخرى بعد ذلك لإصلاح ما تهدم. في اليمن، تجاوزت الخسائر الاقتصادية 200 مليار دولار، وتُقدَّر تكاليف إعادة الإعمار بثلاثين مليار دولار، بينما في السودان تصل التقديرات إلى 700 مليار دولار، وهو رقم يتجاوز قدرات الدولة لعقود مقبلة. غزة تحتاج إلى 70 مليار دولار لإعادة بناء ما دمرته الحرب الأخيرة، وسوريا تحتاج إلى أكثر من 200 مليار بعد أربعة عشر عامًا من النزاع. ليبيا، رغم ثروتها النفطية، تواجه فاتورة إعمار تتجاوز 110 مليارات دولار، والعراق يحتاج إلى نحو 88 مليار دولار لإصلاح ما خلفته الحروب المتعاقبة. أما لبنان فيضيف 11 مليار دولار أخرى إلى فاتورة إعادة البناء في ظل أزمة مالية خانقة.

◄ إجمالي التكاليف يتجاوز تريليوني دولار، أي أكثر من أربعة أضعاف العائدات النفطية المتوقعة لدول أوبك في عام واحد

إجمالي هذه التكاليف يقترب من 1.225 تريليون دولار، أي ما يعادل أكثر من ضعفي ونصف العائدات النفطية المتوقعة لدول أوبك في عام واحد.

لقد تحدثنا فقط عن الخسائر الاقتصادية وإعادة الإعمار، ولم نتحدث عن الكلفة الموازية التي تُستنزف أثناء الحروب نفسها، أي الإنفاق العسكري المباشر على شراء الأسلحة وتمويل العمليات. ووفق تقارير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) ومصادر إقليمية، إذا جمعنا تكاليف إعادة الإعمار (1.225 تريليون دولار) مع الإنفاق العسكري المباشر للدول العربية خلال العقد الماضي، فإن الرقم يتجاوز بسهولة تريليوني دولار. هذه الموارد الهائلة كان يمكن أن تغيّر وجه المنطقة لو وُجّهت إلى التعليم والتكنولوجيا والطاقة المتجددة بدل أن تُستنزف في الحروب.

الأرقام تكشف بوضوح أن النزاعات لا تستهلك فقط الأرواح والبنى التحتية، بل تلتهم أيضًا كل فرصة للاستثمار في المستقبل. فبينما تتجه الاقتصادات الكبرى إلى تعزيز حضورها في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، يجد العرب أنفسهم مضطرين إلى إعادة بناء ما تهدم بدل المشاركة في صياغة الاقتصاد العالمي الجديد.

المعضلة هنا ليست اقتصادية فحسب، بل سياسية بالدرجة الأولى. استمرار النزاعات يعني أن الموارد ستظل موجهة إلى معالجة الأزمات بدل استباقها، وأن العائدات النفطية ستبقى رهينة لتقلبات السوق العالمية بدل أن تتحول إلى أداة إستراتيجية للتنمية. في المقابل يمكن أن يفتح وقف الاقتتال وتبني رؤية سياسية موحدة الباب أمام استثمار هذه العائدات في مشاريع إنتاجية طويلة الأمد، من تطوير الطاقة الشمسية والرياح إلى بناء بنية تحتية رقمية قادرة على استيعاب التحولات التكنولوجية.

التجارب الدولية تقدم دروسًا بالغة الأهمية. النرويج، على سبيل المثال، لم تكتفِ باستغلال عائداتها النفطية في تمويل الإنفاق الجاري، بل أنشأت صندوقًا سياديًا أصبح اليوم الأكبر في العالم، بقيمة تتجاوز 1.4 تريليون دولار، يُستثمر في أسواق عالمية متنوعة لضمان استدامة الثروة للأجيال المقبلة. أما ماليزيا فقد نجحت في تحويل جزء من عائداتها النفطية إلى استثمارات في الصناعات التحويلية والتكنولوجيا، ما جعل اقتصادها أكثر تنوعًا وأقل هشاشة أمام تقلبات أسعار الطاقة. هذان النموذجان يثبتان أن الثروة النفطية يمكن أن تكون نقطة انطلاق نحو اقتصاد معرفي إذا توفرت الإرادة السياسية والرؤية الإستراتيجية.

◄ الدعوة إلى نبذ التفرقة ووقف الاقتتال ليست شعارا أخلاقيا بل ضرورة إستراتيجية، فالتنمية لا تتحقق بلا استقرار والاستقرار لا يقوم بلا مصالحة

في المقابل، يظل العالم العربي أسيرًا لدورة الريع والاستهلاك. كل ارتفاع في أسعار النفط يفتح شهية الإنفاق الحكومي، وكل انخفاض يعيد الأزمات إلى الواجهة. هذه الحلقة المفرغة لا يمكن كسرها إلا عبر إصلاح سياسي يضع حدًا للنزاعات الداخلية، ويؤسس لبيئة مستقرة تسمح بتوجيه الموارد نحو الاستثمار طويل الأمد.

الأمن الطاقي لم يعد مسألة اقتصادية بحتة، بل أصبح جزءًا من الأمن القومي العربي. فكما أن الغذاء والماء ركيزتان للاستقرار، فإن الطاقة هي العمود الفقري لأي مشروع سيادي. غير أن هذا الأمن يظل هشًا ما دامت النزاعات الداخلية تستنزف الموارد وتضعف قدرة الدول على الاستثمار في المستقبل.

الرسالة التي ينبغي أن تصل إلى النخب السياسية والاقتصادية واضحة: لا يمكن للعالم العربي أن يواكب التحولات العالمية وهو غارق في نزاعات تستنزف موارده وتبدد طاقاته. الطفرة النفطية الحالية قد تكون الأخيرة قبل أن يفرض التحول الأخضر واقعًا جديدًا يقلص الاعتماد على النفط والغاز. وإذا لم تُستثمر هذه العائدات في بناء اقتصادات مبتكرة ومستدامة، فإن العرب سيجدون أنفسهم خارج السباق العالمي، يعيدون بناء ما تهدم بينما الآخرون يبنون ما سيأتي.

1