أوروبا تواجه مفارقة تشديد العقوبات ودعم الاقتصاد الروسي
رغم تشديد العقوبات الأوروبية على روسيا منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، تظهر مفارقة لافتة، حيث يواصل التكتل الإسهام في دعم الاقتصاد الروسي في تناقض يعكس تعقيد المصالح المتشابكة بين الجانبين، ويطرح تساؤلات طبيعة العلاقة المعقدة، في ظل واقع يُبرز فجوة بين الخطاب السياسي والتنفيذ.
لندن - تُعدّ الدول الأوروبية، بما فيها فرنسا، من أشدّ المؤيدين لأوكرانيا في حربها ضد روسيا. كما كثّفت عدة دول وارداتها من الطاقة الروسية التي تضخّ المليارات من اليوروهات في اقتصاد موسكو خلال فترة الحرب.
وبعد مرور أربع سنوات على حرب روسيا ضد أوكرانيا، لا يزال الاتحاد الأوروبي في وضع حرج في ما يتعلق بتمويل طرفي الصراع. إذ تُقابل شحناته الكبيرة من المساعدات العسكرية والإنسانية إلى كييف بمدفوعات تجارية لموسكو مقابل النفط والغاز.
وقلّص التكتل اعتماده على روسيا، المورّد المهيمن سابقًا، بنسبة 90 في المئة تقريبًا منذ عام 2022. ومع ذلك، استورد أكثر من 11 مليار يورو من الطاقة الروسية في الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام.
وهذه المعطيات جاءت استنادا على تحليل أجرته وكالة رويترز لبيانات من مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف (سي.آر.إي.أي)، وهي منظمة بحثية مستقلة مقرها هلسنكي.
وزادت سبع دول من أصل 27 دولة عضو في الاتحاد قيمة وارداتها مقارنة بالعام السابق، بما في ذلك خمس دول تدعم أوكرانيا في الحرب.
ومثلا، شهدت فرنسا ارتفاعًا في مشترياتها من الطاقة الروسية بنسبة 40 في المئة لتصل إلى 2.2 مليار يورو، بينما قفزت مشتريات هولندا بنسبة 72 في المئة لتصل إلى 498 مليون يورو، وفقًا للتحليل.
وفي حين أن موانئ الغاز الطبيعي المسال في دول مثل فرنسا وإسبانيا تُعدّ نقاط دخول للإمدادات الروسية إلى أوروبا، إلا أن الغاز غالبًا لا يُستهلك في تلك الدول، بل يُرسل إلى المشترين في جميع أنحاء الاتحاد.
ووصف فايبهاف راغوناندان، المتخصص في شؤون الاتحاد الأوروبي وروسيا بمركز سي.آر.إي.أي زيادة التدفقات بأنها “شكل من أشكال التخريب الذاتي” من قبل بعض الدول.
وبرر ذلك نظرًا إلى أن مبيعات الطاقة تُمثل المصدر الرئيسي لإيرادات روسيا في حربها ضد أوكرانيا المدعومة من أوروبا. وقال “يحصل الكرملين، حرفيًا، على تمويل لمواصلة نشر قواته المسلحة في أوكرانيا.”
وخضعت مدفوعات التكتل للطاقة لموسكو لتدقيق متجدد بعد أن انتقد الرئيس الأميركي دونالد ترامب القادة الأوروبيين بشدة في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، مطالبًا إياهم بوقف جميع هذه المشتريات فورًا.
وقال “على أوروبا أن تُكثّف جهودها. لا يمكنهم الاستمرار في فعل ما يفعلونه. إنهم يشترون النفط والغاز من روسيا بينما يحاربونها. إنه أمر محرج لهم، وكان محرجًا للغاية لهم عندما علمتُ بالأمر.”
وصرّحت وزارة الطاقة الفرنسية لرويترز بأن قيمة واردات البلد من الطاقة الروسية ارتفعت هذا العام مع خدمة زبائن في دول أخرى، دون تسمية دول أو شركات.
وتشير بيانات سوق الغاز إلى أن جزءًا من واردات فرنسا من روسيا يُرسل إلى ألمانيا، وفقًا لمحللي كبلر.
وتقول الحكومة الهولندية إنه رغم دعمها لخطط الاتحاد الأوروبي للتخلص التدريجي من الطاقة الروسية، إلا أنها عاجزة عن عرقلة العقود القائمة بين شركات الطاقة الأوروبية والموردين الروس إلى حين إدراج هذه المقترحات في قانون التكتل.
وأعلن التكتل، الذي حظر بالفعل معظم مشتريات النفط الخام والوقود الروسي، عن خطط لتسريع حظر الغاز الطبيعي المسال الروسي حتى عام 2027، بدلًا من عام 2028.
ويُمثل الغاز المسال الآن أكبر واردات الاتحاد من الطاقة الروسية، حيث يُمثل ما يقرب من نصف قيمة إجمالي المشتريات، وفقًا للبيانات.
ورفضت المفوضية الأوروبية التعليق على بيانات واردات عام 2025. وكان مسؤول الطاقة في التكتل قد صرّح الشهر الماضي بأن الانسحاب التدريجي من الطاقة الروسية يهدف إلى ضمان عدم مواجهة الدول لارتفاعات حادة في الأسعار أو نقص الإمدادات.
وتعني المقترحات، التي تنص على حظر شامل على جميع واردات النفط والغاز الروسية اعتبارًا من 2028، أن الأموال الأوروبية قد تدعم المجهود الحربي للكرملين لمدة عام أو أكثر.

ويقول ترامب إن النفط والغاز الأميركي يمكن أن يعوضا عن الإمدادات الروسية المفقودة، ويرى محللون أن هذا التحول ممكن، رغم أنه سيعزز اعتماد أوروبا على الطاقة الأميركية في عصر تستخدم فيه واشنطن الرسوم كأداة سياسية.
وصرحت آن صوفي كوربو الباحثة في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا “وافق الاتحاد على شراء المزيد من الطاقة من الولايات المتحدة لتلبية المطالب الأميركية الملحة بوقف الواردات الروسية.”
وأضافت “مع ذلك، من الوهم الاعتقاد بأن الغاز الأميركي سيحل محل الغاز الروسي، لأنه في أيدي شركات خاصة لا تمتثل لأوامر البيت الأبيض والمفوضية الأوروبية، بل تعمل على تحسين محافظها الاستثمارية.”
وتشهد المجر وبلجيكا ودول أخرى ارتفاعًا في فواتيرها رغم أن الاتحاد الأوروبي قطع شوطًا كبيرًا منذ 2021 وفي ذلك العام، استورد الاتحاد أكثر من 133 مليار يورو من الطاقة الروسية، وفقًا لبيانات وكالة الطاقة الروسية.
11
مليار يورو واردات الطاقة الأوروبية من روسيا في أول ثمانية أشهر من العام الحالي
وخلال أول ثمانية أشهر من 2025 بلغت فاتورة التكتل 11.4 مليار يورو، وهي نسبة ضئيلة جدًا مقارنة بمستويات ما قبل الحرب، وبانخفاض قدره 21 في المئة بمقارنة سنوية.
ولا تزال المجر وسلوفاكيا اللتان تحافظان على علاقات وثيقة مع الكرملين وترفضان أيّ فكرة للتخلي عن الغاز الروسي من كبار المستوردين، حيث تبلغ حصتهما معًا 5 مليارات يورو من هذا الإجمالي.
ولن تتأثر هذه الدول بعقوبات الاتحاد المُخطط لها على الغاز، والتي تتطلب موافقةً بالإجماع من الدول الأعضاء، إذ لا يزال بإمكانها استلام الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب حتى عام 2028.
وكانت المجر من بين الدول السبع التي شهدت ارتفاعًا في قيمة وارداتها من الطاقة الروسية هذا العام بنسبة 11 في المئة، وفقًا للبيانات.
وانضمت إلى فرنسا وهولندا أربع دول أخرى تدعم حكوماتها أوكرانيا في الحرب: بلجيكا، التي شهدت زيادة بنسبة 3 في المئة وكرواتيا بنحو 55 في المئة ورومانيا بواقع 57 في المئة والبرتغال بمقدار 167 في المئة.
وأعلنت وزارة الطاقة البلجيكية أن زيادة الواردات تعود إلى عقوبات منفصلة فرضها الاتحاد في مارس، وحظرت إعادة تصدير الغاز الروسي إلى خارج الاتحاد.
وهذا يعني ضرورة تفريغ الغاز المُسال الواصل في بلجيكا، وهي مركز عالمي، بدلًا من نقله من سفينة إلى أخرى إلى وجهته النهائية.
وصرحت وزارة الطاقة البرتغالية بأنه تم توريد كميات متواضعة فقط من الغاز الروسي، وأن التدفقات على مدار العام ستكون أقل من عام 2024. ولم تستجب الحكومتان الكرواتية والرومانية لطلبات التعليق على البيانات.
وبلغ إجمالي واردات التكتل من الطاقة الروسية منذ عام 2022، أكثر من 213 مليار يورو، وفقًا لبيانات سي.آر.إي.أي
ويُقزّم هذا الرقم المبلغ الذي أنفقه الاتحاد على المساعدات لأوكرانيا في الفترة نفسها، رغم أنه كان أكبر مُتبرع لها، فقد خصص 176 مليار يورو من المساعدات المالية والعسكرية والإنسانية لكييف، وفقًا لمعهد كيل، وهو مركز أبحاث اقتصادي ألماني.
وتُعدّ شركة توتال إنرجيز الفرنسية من بين أكبر مستوردي الغاز الروسي إلى أوروبا، إلى جانب شركات رئيسية أخرى، منها شل، وناتورجي الإسبانية، وسيفي الألمانية، وشركة غونفور التجارية.
وتعمل جميعها بموجب عقود طويلة الأجل تمتد حتى ثلاثينات أو أربعينات القرن الحادي والعشرين.
وأفادت توتال لرويترز بأنها تواصل عمليات التسليم من محطة يامال الروسية بموجب عقود لا يمكن تعليقها دون فرض عقوبات رسمية من الاتحاد. وأكدت أنها ستواصل الإمدادات طالما رأت الحكومات الأوروبية أن الغاز الروسي ضروري لأمن الطاقة.
وقال رونالد بينتو، كبير محللي أبحاث الغاز في شركة كبلر، إن “الشركات مترددة في المخاطرة بتكبد غرامات نتيجة انتهاك الالتزامات التعاقدية دون وجود غطاء قانوني قوي يتمثل في حظر الاتحاد على الغاز الروسي.”
وأضاف “في النهاية، يشتري اللاعبون في السوق هذا الغاز، وليس الدول، وهم في الغالب ملتزمون بعقودهم طويلة الأجل.”
وأشار إلى أن دراسات ديناميكيات التدفق تظهر أن الواردات الفرنسية من الغاز الروسي غالبًا ما تتدفق عبر خط أنابيب إلى بلجيكا لتصل إلى ألمانيا، حيث يوجد طلب قوي من المستخدمين الصناعيين.
وحذّر في تصريحاته لرويترز من أنه “من المستحيل تتبع حركة جزيئات الغاز بدقة داخل شبكة الغاز الأوروبية.”
وأكد متحدث باسم شركة سيفي، التي تُشغّل 10 في المئة من شبكة نقل الغاز في ألمانيا، أن الشركة تستورد الغاز الروسي عبر فرنسا وبلجيكا.
وأعربت وزارة الاقتصاد الألمانية لرويترز عن ترحيبها بجهود التكتل الرامية إلى التخلص التدريجي من واردات الوقود الأحفوري الروسي، لكنها مُلزمة بعقد طويل الأمد لشراء الغاز من محطة يامال الروسية دون خيار إنهاء الاتفاقية.
وقال متحدث باسمها “بموجب شروط العقد القائمة على الاستلام أو الدفع، ستضطر سيفي إلى دفع ثمن الكميات المتفق عليها، حتى في حال عدم استلام أيّ شحنة.”
وأكد لرويترز أن عدم القبول من شأنه أن يمكّن يامال من إعادة بيع هذه الكميات، وهو ما من شأنه أن يوفر دعماً مضاعفاً للاقتصاد الروسي.
